لبنان... بوابة فرنسا للعودة إلى الشرق الأوسط

نشر في 24-07-2007
آخر تحديث 24-07-2007 | 00:00
 علـي بلوط ثمة سياسة فرنسية ثابتة تجاه العنف والإرهاب تعتمد على عنصرين: الأول الابتعاد عن الدخول في منازعات مع المنظمات ذات الطابع العنفي، والثاني محاولة ترويض هذه المنظمات باستخدام شتى الإغراءات السياسية التي تتيح لها البقاء خارج إطار العنف الدولي. وقد وضعت فرنسا لنفسها خطاً أحمر كبيراً، فهي لن تسمح، بأي شكل من الأشكال، بممارسة العمل الإرهابي داخل حدودها الجغرافية. أما خارج هذه الحدود فهذا لا يعنيها إلا بمقدار تجاوز الخط الأحمر.

نجحت هذه السياسة في كثير من الحالات. ففي السبعينيات، غازلت باريس بنجاح منظمة «أبو نضال» الفلسطينية (فتح المجلس الثوري) عندما كانت تحتل نفس مرتبة «القاعدة» اليوم. وتوصلت باريس إلى اتفاق مع أبو نضال خلاصته أن يمتنع عن نشاطه الإرهابي داخل الأراضي الفرنسية، مقابل تعيين ممثل سري له في العاصمة باريس على رأس مكتب صغير. إلى الآن تنفي فرنسا وجود مثل هذا الاتفاق بالرغم من الأدلة المادية التي قدمتها كل من لندن وواشنطن حول صدق هذا الزعم. وما بين النفي الفرنسي والتأكيد الأنجلو-أميركي، دارت معارك طاحنة في الغرف السرية لأجهزة مخابرات الدول الثلاث، ولم تتورع لندن وواشنطن من توجيه اتهام علني لفرنسا «انها تدعي البطولة لكنها في الواقع ضعيفة». واستخدمت التعبير الإنكليزي (WIMP) في وصف الحالة الفرنسية، ومازال هذا التعبير مستخدماً إلى اليوم عندما تدعو الحاجة. «أبو نضال» من جانبه، التزم بنود اتفاقه السري مع فرنسا، ولم تسجل أي حادثة إرهابية تابعة لمنظمته. بل إنه في بعض المراحل «تعاون أمنياً» مع المخابرات الفرنسية ضد منظمات إرهابية أوروبية مثل منظمة «بايدر – ماينهوف» الألمانية ومنظمة «الجيش الأحمر» اليابانية، ومنظمة «أكسيون ديركت» الفرنسية ومنظمة الدكتور الفلسطيني وديع حداد وعلى رأسها الإرهابي الشهير كارلوس.

هذه واحدة. أما الثانية فقد جرت بعد إخراج صدام حسين من الكويت. قبل غزو الكويت، كان العراقيون، وبصورة خاصة أنصار صدام يعتبرون فرنسا «وطنهم الثاني» ويتصرفون على هذا الأساس. بعد الغزو انقلبت الآية (380) درجة. كل عراقي يدخل فرنسا هو «إرهابي محتمل» في نظر السلطات الفرنسية الأمنية. وكان الرئيس الراحل فرنسوا ميتران عميد هذه السياسة التشددية، وقد ساعده في ذلك وزير الخارجية الفرنسي اليوم «كوشنير» عندما أطلق مع زوجة ميتران حملة حماية الأكراد في شمال العراق.

لكن سرعان ما عادت فرنسا إلى خوفها التقليدي من عمليات انتقامية يقوم بها صدام داخل حدودها الجغرافية، فلجأت إلى أسلوب «الغزل» هذه المرة مع بغداد وبعثت برسائل «تحت الطاولة» تشير إلى أن باريس تستطيع أن تؤدي دوراً إيجابياً، ضمن المجموعة الأوروبية، لفك الحصار عن العراق، مقابل تعهد صادر من صدام شخصياً أن يحترم الحدود الفرنسية، وألا يقوم بأي عملية تستهدف المعارضين العراقيين المتواجدين في فرنسا. وكان معظم هؤلاء في ذلك الوقت من الأكراد. استجاب صدام للغزل الفرنسي وأعطى التعهدات المطلوبة. ولم تسجل أي حادثة عنف عراقية في فرنسا.

وفي الوقت ذاته بدأت معركة كلامية حادة أخرى في الغرف المغلقة لاجهزة المخابرات بين فرنسا من جهة وبين بريطانيا واميركا من جهة اخرى. وزادت ضراوة المعركة عندما قام رئيس مجلس ادارة شركة «الف» النفطية الفرنسية شبه الحكومية بزيارة سرية لبغداد حيث وقع «اتفاق نوايا» لاستثمار حقول نفطية مكتشفة حديثاً في العراق، خاصة «حقل مجنون» الذي يعتبره العاملون في المجال النفطي العالمي «قطعة نادرة» من الناحية الجيولوجية وكمية النفط الموجودة فيه.

لكن اتفاق النوايا هذا بقي حبراً على ورق نتيجة الضغط الأميركي على باريس، بالإضافة إلى أن بغداد اكتشفت أن نوايا فرنسا الحقيقية لا تتفق مع طموحات صدام. غير أن فرنسا ربحت ما راهنت عليه في ترويض «الوحش الإرهابي» العراقي وإبعاده عن أراضيها.

لأن فرنسا تحب كل ما هو تقليدي، فهي تمارس اليوم اللعبة ذاتها مع «حزب الله». لكنها في بداية اللعبة وقعت في تناقض فاضح فسارعت بسرعة الى تصحيح وتعديل مسارها. وزير الخارجية كوشنير «اخترع» الوسيلة للوصول إلى الغاية. فهو يريد، بموافقة رئيسه الجديد ساركوزي، ممارسة لعبة «ترويض الوحش الجديد» المتمثل بـ «حزب الله»، تمهيداً لتنفيذ «أجندة» فرنسية تشمل المنطقة برمتها. فطلع بقصة عقد مؤتمر «سان كلو» لجمع الموالاة والمعارضة اللبنانيين تحت سقف فرنسي. لكن الحقيقة أن «كوشنير» رغب في فتح قناة اتصال مع «حزب الله» أكثر من رغبته في القيام بمهمة مصالحة اللبنانيين التي بدت له مستحيلة. الغريب أن «ساركوزي»، تحت ضغط «بوش» حاول تفجير هذه المحاولة في بدايتها عندما وصف «حزب الله» بالإرهابي قبل يومين من انعقاد مؤتمر «سان كلو». الغريب والطريف معاً أن رئيس فرنسا تراجع عن تصريحه دون أن يشرح لماذا قام بهذا العمل؟ ثم لماذا تراجع عنه؟ المهم ان لقاء «سان كلو» أعطى النتيجة المطلوبة فرنسياً، وهي فتح قناة اتصال علني مع «حزب الله» من دون معارضة واشنطن المتشددة.

اذاً، فإن هدف مصالحة اللبنانيين كان هدفاً فرنسياً ثانوياً. أما الهدف الأساسي فهو إخراج السياسة الفرنسية من هامش أزمة الشرق الأوسط وإدخالها في صلب المشكلة، وذلك بعد أن قرأ «كوشنير» وخبراء السياسة الخارجية في ال «كي دورسيه» بدقة متناهية تدهور الوضع الأميركي في المنطقة، وخرجوا بمحصلة؛ وهي أن واشنطن تسير بخطى حثيثة نحو خسارة الجزء الأكبر من نفوذها في الشرق الأوسط، مما سيحدث فراغاً بدأت روسيا تسعى إلى ملئه. وفرنسا، حسب دراسات خبرائها الشرق أوسطيين، ترى أنها المؤهلة الوحيدة لملء هذا الفراغ. ومن أجل تحقيق هذه الرؤية الاستراتيجية، لابد من بناء قاعدة سياسية متينة تنطلق منها. واختارت لبنان مركزاً لبناء هذه القاعدة لأسباب عديدة أبرزها؛ أولاً: أن لبنان ينتمي إلى الثقافة الفرنكوفونية، وأنه، بمواليه ومعارضيه، يعتز بهذا الإرث. وثانياً: فإن «حزب الله» عنصر ضروري لنجاح الرؤية الفرنسية ليس في لبنان فحسب، بل في المنطقة برمتها. وفرنسا تسعى الى استخدام «حزب الله» لتأدية دور أكبر مع إيران التي تمثل قمة الطموحات الفرنسية في رحلة العودة إلى الشرق الأوسط.

يقول العارفون بخفايا الاستراتيجية الفرنسية الجديدة، أن «فرنسا الجديدة» ستضع كل إمكاناتها لتحقيق حلم العودة الى المنطقة، فهي قد أُخرجت «ظلما» على يد الأميركيين والإنكليز في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما أخرجتها أميركا من إيران بعد الحرب العالمية الأولى. وهناك عامل خفي لا يظهر إلا في مناقشات الحلقات الضيقة لصانعي القرار الفرنسي، هو الصراع الخفي بين الانجلو- سكسونية الممثلة في بريطانيا وفرنسا، وبين الجزويتية الكاثوليكية التي تصر فرنسا على تمثيلها سياسياً في العالم. وقد نقل على لسان «كوشنير» قوله إن لفرنسا (حقاً شرعياً في محاولة استعادة ما سلب منها).

وهكذا، فان المحطة الأولى في رحلة العودة الفرنسية إلى المنطقة هي لبنان. والفشل يعني خسارة «الحلم»، أو على الأقل تجميده إلى أجيال قادمة. إن فرنسا الجديدة الحالمة ترى أن كل الظروف مواتية للنجاح اليوم، وعليها أن تأخذ جرعة من الشجاعة لتثبت خطأ الذين اتهموها بـ «الضعف التاريخي».

إن واشنطن تعرف حقيقة الحلم الفرنسي، وتدرك أبعاده الاستراتيجية. وباستطاعتها - إذا رغبت- أن تنسف الطريق أمام استكمال الرحلة الفرنسية في بدايتها اللبنانية. وهذا يعني زيادة كارثة جديدة تضاف إلى سلسلة الكوارث اللبنانية. وفي حال حدوث ذلك فإنه يجعل من لبنان مركزاً لصراع بين قوتين كانتا، إلى الأمس القريب، صديقتين له.

ما يلفت النظر أن بعض «اللبنانيين الجدد» من أنصار السياسة الأميركية، يشجعون اليوم الأميركيين على المضي في عملية قطع الطريق على الحلم الفرنسي بدءاً من لبنان. وفي رأي هؤلاء أن الفرنسيين، في التحليل النهائي، ضعفاء «تاريخياً» أمام ممارسة القوة، خاصة إذا كانت هذه القوة أميركية الجنسية. والضعيف غالباً ما يهرب من ساحة المعركة قبل بدء القتال.

 

كاتب لبناني

back to top