أميركا وتدمير الذات بفرض الهيمنة

نشر في 25-10-2007
آخر تحديث 25-10-2007 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت تعاظمت النزعة المعادية للولايات المتحدة في الآونة الأخيرة بفعل سلوك إدارة بوش وافتقارها إلى القدرة على الحكم السليم على الأمور، مسببة ما يمكن وصفه بـ «الصدع الخطير في السياسة الدولية»، ويعزى ذلك إلى أربعة أسباب هي: التوسع في «حق توجيه الضربات الاستباقية» بما يتيح لأميركا التدخل أينما ووقتما تشاء، واختلال التوزيع العالمي للقوة بما يغري الولايات المتحدة أن تخوض مزيداً من مغامرات استخدام القوة، والإدراك الخاطئ والمبالغة في استخدام القوة التقليدية لمواجهة الدول الضعيفة والمنظمات ذات الهياكل المعقدة والمتشابكة، وأخيراً، افتقار إدارة بوش إلى الكفاءة في استخدام القوة، فضلاً عن افتقارها إلى أي مبدأ أو استراتيجية ملزمة تستند إليها.

حين كتبت عن «نهاية التاريخ» منذ ما يقرب من العشرين عاماً، لم أكن أتصور أن سلوك أميركا وافتقارها إلى القدرة على الحكم السليم على الأمور قد يؤدي إلى تحول معاداة أميركا إلى صدع خطير في السياسة الدولية. إلا أن هذا هو ما حدث بالتحديد، وما زال يحدث، ولاسيما منذ الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001. ويرجع الأمر إلى أربعة أخطاء رئيسية ارتكبتها إدارة بوش.

الأول، ان مبدأ «حق توجيه الضربات الاستباقية»، الذي نشأ استجابة لهجمات 2001، قد توسع بصورة غير ملائمة بحيث شمل العراق والدول «المارقة» كما تطلق عليها الإدارة الأميركية التي هددت بتصنيع أسلحة الدمار الشامل.

مما لا شك فيه أن الوقاية أمر مبرر تماماً في مواجهة الإرهابيين الذين لا دولة لهم والذين يحاولون تدبير الحصول على مثل هذه الأسلحة. ولكن ليس من الجائز أن يتحول هذا المبدأ إلى المحور الذي تدور حوله سياسة منع الانتشار النووي، وأن تسمح الولايات المتحدة لنفسها بموجبه بالتدخل عسكرياً في كل مكان بدعوى منع تطوير أو تصنيع الأسلحة النووية.

والمسألة ببساطة، أن التكاليف المترتبة على مثل هذه السياسة باهظة للغاية (مئات المليارات من الدولارات وعشرات الألوف من الخسائر في الأرواح في العراق، وما زالت الأرقام في تصاعد). وهذا هو السبب الذي جعل إدارة بوش تحجم عن الدخول في مواجهة عسكرية مع كوريا الشمالية وإيران، على الرغم من تمجيدها للضربة الجوية التي نفذتها إسرائيل في العراق ضد مفاعل Osirak (أو تموز كما أطلق عليه العراقيون) في عام 1981، والتي تسببت في تراجع برنامج صدّام حسين النووي أعوام عدة إلى الخلف. إلا أن نجاح هذه الضربة في حد ذاته أصبح يعني استحالة تكرار مثل هذا التدخل المحدود، وذلك بعد أن تعلم الراغبون في اقتناء مثل هذه الأسلحة كيفية دفن وإخفاء برامجهم الوليدة لتصنيع الأسلحة، وإنتاج أكثر من نسخة منها.

أما الخطأ الثاني في الحسابات، فإنه يرتبط بردود الأفعال العالمية المحتملة إزاء ممارسة الولايات المتحدة لقوتها المهيمنة. حيث كان العديد من المسؤولين داخل إدارة بوش يعتقدون أن الاستخدام الناجح للقوة الأميركية من شأنه أن يضفي عليها الشرعية حتى من دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو منظمة حلف شمال الأطلنطي. كان هذا هو النمط الذي تبنته الولايات المتحدة في العديد من مبادراتها أثناء الحرب الباردة، وفي البلقان أثناء فترة التسعينيات؛ وآنذاك كان ذلك النمط يعرف بـ «الزعامة» بدلاً من «الأحادية».

ولكن إبان حرب العراق كانت الظروف قد تغيرت، فقد تعاظمت قوة الولايات المتحدة مقارنة ببقية العالم إلى الحد الذي أصبح معه الافتقار إلى التبادل المتوازن يشكل مصدراً عميقاً للانزعاج حتى بالنسبة إلى أقرب حلفاء أميركا. وكانت التوجهات المعادية لكل ما هو أميركي والتي تصاعدت على نحو تراكمي نتيجة للتوزيع العالمي غير العادل للقوة، قد أصبحت جلية واضحة حتى قبل اندلاع الحرب في العراق، كما تبين من المعارضة الشديدة للعولمة التي تقودها أميركا أثناء ولاية كلينتون. إلا أن الأمر تفاقم بسبب تجاهل إدارة بوش الصارخ لكل المؤسسات الدولية بمجرد تسلمها للسلطة وهو النمط الذي استمر حتى بدايات الحرب في العراق.

يتلخص الخطأ الثالث الذي ارتكبته أميركا في المبالغة في تقدير مدى نجاح القوة العسكرية التقليدية في التعامل مع الدول الضعيفة والمنظمات المتشعبة المتشابكة التي أصبحت السمة المميزة للسياسة الدولية، على الأقل في الشرق الأوسط الكبير. والحقيقة أن الأمر يستحق أن نتأمل ونتساءل ما السبب وراء عجز الدولة التي تمتلك هذه القوة العسكرية التي لم يسبق لغيرها من الدول أن امتلكتها طوال التاريخ البشري، ورغم إنفاقها على آلتها العسكرية قدر ما تنفقه بقية بلدان العالم مجتمعة، عن جلب الأمن إلى بلد صغير تعداد سكانه 24 مليون نسمة بعد ما يزيد على الأعوام الثلاثة من الاحتلال. إن جزءاً من المشكلة على الأقل يرجع إلى تعاملها مع قوى اجتماعية معقدة غير منظمة أو خاضعة لإطار قوة مركزية حاكمة قادرة على فرض القواعد عليها بحيث يمكن ردعها، أو قهرها، أو التعامل معها من خلال القوة التقليدية.

ولقد ارتكبت إسرائيل الخطأ نفسه حين تصورت أنها قادرة على استخدام قوتها العسكرية التقليدية الهائلة في تدمير «حزب الله» أثناء حرب لبنان في الصيف الماضي. ويبدو أن كلاً من إسرائيل والولايات المتحدة يأخذهما الحنين إلى عالم القرن العشرين حيث ساد مفهوم «الدولة الأمة». وهو أمر مفهوم، حيث يتناسب ذلك العالم مع النوعية التي تمتلكها الدولتان من القوة التقليدية.

إلا أن ذلك الحنين قاد الدولتين إلى إساءة تفسير التحديات التي تواجههما الآن، سواء بالربط بين تنظيم «القاعدة» وبين العراق تحت حكم صدّام حسين، أو الربط بين «حزب الله» وبين إيران وسورية. وربما يكون هذا الارتباط قائماً في حالة «حزب الله»، إلا أن مثل هذه القوى المتشابكة لها جذورها الاجتماعية الخاصة، وهي ليست مجرد بيادق على رقعة شطرنج تحركها قوى إقليمية. ولهذا السبب كانت ممارسة القوة التقليدية سبباً في الإحباط.

الخطأ الرابع يتلخص في أن استخدام إدارة بوش للقوة يفتقر إلى الكفاءة، فضلاً عن افتقارها إلى أي مبدأ أو استراتيجية ملزمة تستند إليها. ففي العراق وحدها، أساءت الإدارة تقدير تهديد أسلحة الدمار الشامل، وأخفقت في التخطيط على النحو الملائم للاحتلال، ثم أثبتت عجزها التام عن التأقلم السريع حين ساءت الأمور. وحتى يومنا هذا أخفقت الإدارة الأميركية في معالجة قضايا مباشرة في العراق، مثل تمويل الجهود الرامية إلى الترويج للديموقراطية.

إن هذا العجز في التنفيذ لابد أن تترتب عليه عواقب استراتيجية وخيمة. والعجيب أن العديد من الأصوات التي كانت تنادي بالتدخل العسكري في العراق حتى آلت الأمور إلى ما نراه اليوم، تنادي الآن بالتدخل العسكري في إيران. ما الذي قد يجعل أي عاقل في العالم يتصور أن الصراع مع عدو أضخم وأشد عزيمة من العراق قد يدار على نحو أكثر كفاءة؟

إلا أن المشكلة الجوهرية تظل كامنة في التوزيع غير المتوازن للقوى في إطار النظام الدولي. ذلك أن أي دولة تجد نفسها في موقف الولايات المتحدة، حتى ولو كانت دولة ديموقراطية، لابد أن تجد إغراءاً عظيماً في ممارسة قوتها المهيمنة في ظل القيود المتضائلة على الدوام. كان مؤسسو أميركا الأوائل قد استجابوا إلى معتقد مشابه مفاده أن القوة غير المقيدة، حتى ولو حصلت على شرعيتها بصورة ديموقراطية، قد تتحول إلى خطر داهم، وهذا هو السبب الذي دفعهم إلى تأسيس نظام دستوري مؤلف من قوى منفصلة داخلياً للحد من استفحال السلطات التنفيذية للإدارة.

إن مثل هذا النظام لا وجود له على مستوى عالمي اليوم، وهو ما يفسر لنا أسباب انزلاق أميركا إلى كل هذه المتاعب. إن التوزيع الدولي للقوة على نحو أكثر سلاسة واتزاناً، حتى في ظل النظام العالمي الحالي الذي لا نستطيع أن نعتبره نظاماً ديموقراطياً كاملاً، من شأنه أن يقلص من الإغراءات الداعية إلى التخلي عن مبدأ الاستخدام الحكيم للقوة.

فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama

*عميد كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، ورئيس مجلس إدارة المجلة الدورية «أميركان إنتريست» (المصلحة الأميركية)«بروجيكت سنديكيت/مجلة المصلحة الأميركية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top