العمران والمفاهيم الاجتماعية الحاكمة - 2

نشر في 11-04-2008
آخر تحديث 11-04-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي كان هاجسنا كأسرة هو كيف نحافظ على تماسكنا في بناء رأسي، ونحن من تعود على المساحات الأفقية اقترح أصغرنا سنا أن نبني البيت الجديد بصيغة تجعل من البناء الرأسي أمرا يحافظ على أفقية ورحابة المعمار القديم الذي يتحيز للزمان على حساب تخصيص المكان‏،‏ وكانت فكرة أصغرنا سنا هي إعادة ترتيب البناء الأفقي في المعمار الرأسي‏،‏ وبذلك أصبح الطابق الثاني في البيت يؤدي وظيفة صحن الدار الأفقي‏،‏ إذ بني سلم من الأول الى الثاني فقط‏،‏ وأصبح الطابق الثاني مفتوحا للجميع، ثم بني سلم آخر من داخل الطابق الثاني الى الأدوار العليا‏،‏ وكان الهدف من ذلك أن يقيم الأب والأم في الطابق الثاني وبذلك لا يستطيع القادم من الأول الوصول الى الثالث إلا إذا مر على الوالدين وألقى السلام‏،‏ وكذلك القادم من الرابع أو الثالث لا يستطيع النزول الى الشارع إلا إذا مر بالطابق الثاني‏ (‏صحن الدار الرأسي‏)،‏ وهذا السلوك ليس تطوعيا‏،‏ وإنما جزء من البناء‏،‏ أي أنه محكوم بالجدران لا خيار لأحدنا أن يصل الى غرفته إلا بعد إلقاء السلام على أبويه، والمعمار حكم هذا السلوك‏،‏ ورأينا في ذلك توازنا بين خصوصية الفرد‏‏ وارتباط المجموع بالوالدين.

لم يكن سلوك أسرتنا في تغيير المعمار الأفقي إلى المعمار الرأسي إلا أمرا خاصا إذا ما قورن بالتحولات العمرانية التي حدثت في مصر كلها. حالتنا كانت حالة فردية ومجهودا خاصا، ولم يكن هدفنا العمران بقدر ما كان الهدف هو الحفاظ على الأسرة والعلاقات الاجتماعية الدافئة.

أما بشكل عام، فلكل من المعمار الأفقي والرأسي، معاييره الصارمة التي تحدد حركة الانسان في الفراغ، في العمران الأفقي، يكون البيت فراغا واحدا يقسم مكانا للمعيشة وآخر للضيوف وفي أطراف البيت هناك الحظيرة وبيت الطيور، هذا بالنسبة للرؤية الفلاحية المصرية على الأقل للتعامل مع الفراغ في القرية.

أما الرؤية الرأسية للعمران ففيها حديقة محيطة بالبناء، وفيها ادوار مختلفة جميعها يصلح للسكنى، وبها احيانا حديقة في أعلى البناية أو «السطوح»، أو ما يسمى بالروف غاردن (Roof Garden)، يسكن الطابق العلوي غالبا «الناس اللي فوق» الـ«هاي لايف»، البنت هاوس، هذا عمران محدد تجده في المدن الغربية الكبرى مثل لندن وباريس، عمارة تحكمها رؤية معماريين كبار مثل أوسمان أو لانفا أو رايت.

المعمار الأفقي له مزاياه والمعمار الرأسي له مزاياه أيضا، شريطة عدم الخلط بينهما، فليس هناك عيب في معمار القرية المصرية الأفقي مما يجعله أقل من المعمار الرأسي، في وسط قاهرة اسماعيل باشا في القرن التاسع عشر، المعروف الآن بوسط البلد، وسط البلد صممه المهندس الفرنسي لانفا الذي صمم واشنطن العاصمة، الى هذا الحد كانت قاهرة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تتبنى المعمار الرأسي، وكان الريف المصري يتبنى المعمار الأفقي، وكلاهما كان نظيفا وانيقا وملائماً لمعيشة اصحابه، وعندما حدث مشروع ترييف المدن في عهد عبدالناصر وما بعده، لم يبن جماعتنا معمارا جديدا، فعندما حاولوا بناء عمارة رأسية، لم يلتزموا بقوانينها، هم فقط جعلوا الافقي رأسيا، ولك أن تتخيل المشهد، البيت الريفي المكون من مكان للمعيشة وللضيوف وفي أطرافه توجد عشة الفراخ وحظيرة البهائم، رفع من طرفه من عند العشة، وأقيم ليصبح عمارة رأسية تكون «العشة» قمتها، لذا نجد أسطح العمارات في القاهرة والتي كانت تمثل الأدوار العليا و«الرووف غاردن» والبنت هاوس، والناس اللي «فوق» و«الهاي لايف» أصبحت اليوم مكانا لسكنى البواب والخدم وتربية الفراخ لا تربية الزهور.

رؤية العالم من خلال العشة تقلب الموازين، فأصبح «اللي فوق» يعني البواب والعشة والسكان العشوائيين، ممن يمارسون البغاء على اسطح المنازل احياناً، كما جاء في رواية علاء الأسواني الموسومة «عمارة يعقوبيان»، أما «الباشوات» فهم يسكنون الادوار السفلى، اذن اختل مفهومنا لما هو فوق وما هو تحت، وهذا ما عبر عنه مطرب العشة الغنائية «حبة فوق وحبة تحت».

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)

back to top