لماذا يشارك الإسلاميون في الحياة السياسية العربية؟ قراءة في خريطة الدوافع الذاتية
تطرح الظاهرة الإسلامية في السياسة العربية العديد من التساؤلات حول ماهية العوامل التي تدفع تياراتهم للمشاركة على الرغم من تعثرهم البادي وتعرضهم في بعض الدول لقمع النخب الحاكمة. وإذا ما استثنينا إسلاميي الهوية المزدوجة كـ«حزب الله» و«حماس» (فصائل مقاومة وتيارات سياسية في الوقت نفسه) بما لهم من حسابات جذرية في مداها وحدية في تناقضها مع رؤى ومصالح قوى أخرى فاعلة في السياق المحلي المعني، تشير خبرات التيارات الإسلامية في بقية الحالات العربية إلى حضور مجموعتين متمايزتين من الدوافع تتحدد أهمية كل منهما النسبية وفقاً لخصائص نمط ومساحات المشاركة المتاحة لهم والمعطيات العامة للحياة السياسية.فهناك من جهة مجموعة دوافع الحد الأدنى التي تروم توظيف مشاركة الإسلاميين السياسية وآلياتها، خصوصاً تلك المرتبطة بالمؤسسات التشريعية والعمل البرلماني، لدفع قمع نخب الحكم وأجهزتها الأمنية والحفاظ على تماسك قواعدهم الناخبة من خلال التعبير عن مطالبها وإعطائها زخماً ليس له أن يتحقق بعيداً عن دينامية السياسة وتنوعات الفضاء العام. تتصاعد أهمية دوافع الحد الأدنى هذه في مراحل أو لحظات تأزم العلاقة بين النخب والتيارات الإسلامية وهيمنة المقاربات الصراعية عليها كما تدلل اليوم وضعية جماعة الإخوان في مصر والأردن.فعلى سبيل المثال رتب انتهاء مرحلة الاسترخاء النسبي 2004-2005 في علاقة النظام المصري بجماعة الإخوان، بعيد تمكن الأخيرة من الفوز بما يقرب من عشرين في المئة من مقاعد مجلس الشعب المصري في انتخابات 2005 التشريعية ومع نزوع الأجهزة الأمنية مجدداً نحو ممارسات قمعية من شاكلة التعقب المستمر لنشطاء الجماعة والحبس التعسفي والإدراج على قوائم الممنوعين من السفر والإحالة إلى القضاء الاستثنائي (العسكري) بحق قيادات تنظيمية ومالية، تعويلاً متزايداً من الجماعة على تمثيلها البرلماني لضمان حد أدنى من حرية الحركة لكوادرها في مواجهة القمع والبحث عن سبل تفعيل أجندة فعلها السياسي. ووظفت طاقات فريق الإخوان البرلماني للتصدي العلني لقمع النظام بتحويله إلى قضية رأي عام وللاستمرار في طرح القضايا المركزية للقواعد الناخبة؛ كالشريعة، ودور الدين في الحياة العامة، ومكافحة الفساد والرقابة على الأداء الحكومي، والإصلاح الديموقراطي. اعتمد نواب الإخوان على عضويتهم بمجلس الشعب والحصانة التي تمنحها للتحرك السياسي داخل مصر وخارجها دونما خوف كبير من التوقيف أو المنع من السفر إلى الخارج وبرز في هذا السياق رئيس الفريق البرلماني للإخوان محمد سعد الكتاتني وعدد من نواب الصف الأول كمحمد البلتاجي وحسين إبراهيم (وهما نائبان للكتاتني)، وبالمقابل ضيقت الأجهزة الأمنية مساحات حركة رموز قيادية غير برلمانية لجماعة الإخوان سواء بالتوقيف كعصام العريان (مسؤول القسم السياسي بالجماعة وأحد قياداتها الإعلامية) أم بالمنع المتواتر من السفر كما في حالة عبد المنعم أبو الفتوح (عضو مكتب الإرشاد) وغيرهما. الثابت إذن أن ثمة علاقة طردية بين مركزية دوافع الحد الأدنى ومراحل أو لحظات المواجهة بين النخب والإسلاميين وما ينتج عنها من قمع وتقييد لمساحات الحركة المتاحة لهم.أما المجموعة الثانية من الدوافع فتدور حول مطلبية الإصلاح السياسي والمجتمعي الذي ينشده الإسلاميون ورغبتهم في الظهور بمظهر الفاعل السياسي المسؤول ومن ثم الخروج من عباءة نقد الحكومات والتيارات غير الدينية لهم كقوى راديكالية تهدد الاستقرار ولا يؤتمن عواقب ممارساتها. فسعي الإسلاميين للمشاركة في السياسة لم يتطور فقط كاستراتيجية لاتقاء قمع النخب أو لإعطاء صوت لمطالب قواعدهم الناخبة، بل أيضاً وبكل تأكيد في سياق قناعة بحتمية الإصلاح ورغبة في التغيير تشابكتا مع ظروف نشأة التيارات الإسلامية المعاصرة. فقد اتسمت الموجة التأسيسية الأولى لجماعات الإخوان المسلمين في مصر وبلاد الشام خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بهيمنة قضية التحرر وأمل الانعتاق من نير الاستعمار الغربي على أولويات جُل القوى السياسية، ومن بينها الإخوان، على نحو جاءت معه أجندات هؤلاء تغييرية خالصة تروم إعادة تأسيس الدولة والمجتمع في ظل الجماعة الوطنية، وإن وجدت بها أيضاً أحلام استعادة دولة الخلافة متنفساً.أما موجة التأسيس الثانية في السبعينيات والثمانينيات في المغرب والمشرق فارتبطت بسلسلة من الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحادة دللت على تعثر، إن لم يكن فشلاً لمشاريع ما بعد الاستقلال من ليبرالية واشتراكية وعروبية ومحدودية شرعية النخب التي تبنتها، ومن ثم تبلور معها دور الإسلاميين كقوى معارضة ذات هوية دينية وإرادة تغييرية استفادت ولا شك من زخم العودة إلى الدين في مجتمعات العرب. نعم اختلفت الأهداف والاستراتيجيات والأدوات على نحو جذري بين أولئك الذين ارتضوا الممارسة السلمية للسياسة عن طريق المشاركة وطوروا أجندات إصلاحية جوهرها التدرج والتزام نبذ العنف وتلك المجموعات الجهادية التي رأت في الأخير السبيل الوحيد لإسقاط النخب الحاكمة وإحداث تحولات راديكالية في بنى الدولة والمجتمع. وتفاوتت بكل تأكيد تأويلات أتباع النهجين لجوهر ومضامين أحكام الإسلام في هذا السياق، إلا أن مقاربات إسلاميي المشاركة وإسلاميي الجهاد تلاقت على مركزية التغيير ووجهته الدينية. وعلى الرغم من مجمل ما مر بالتيارات الإسلامية من تحولات، فإنها ما لبثت تنظر بجدية إلى مسألة التغيير.* كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي- واشنطن