العرب أمام المشكلة الغربية

نشر في 13-08-2007
آخر تحديث 13-08-2007 | 00:00
 ياسين الحاج صالح

هناك ثلاثة أعماق وثلاثة عناوين كبرى لمشكلتنا الغربية: الإسلام، إسرائيل، النفط. وهي منابع ثلاثة لعدم استقرار عالمنا، ثقافياً ونفسياً، أكثر حتى مما هو سياسياً وأمنياً. وفي ما يتعلق بالبترول فقد اقتضى على الدوام ترتيبات أمنية وسياسية واستراتيجية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، خصوصاً ترتيبات تضمن ألا تقع أي حلقة من السلسلة النفطية، التنقيب والاستخراج والنقل والتصفية والتسعير والاستهلاك، في أيد يعتبرها الغرب معادية له.

ثلاث مشكلات كبرى تواجه العرب في هذا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين: مشكلة الدولة، مشكلة الدين، والمشكلة الغربية. وستهتم المقالة هذه بالخطوط العريضة للمشكلة الغربية، بعد أن كنا خصصنا مقالين نشرا الشهر الماضي في هذا المنبر لمشكلتي الدولة والدين.

ثمة ثلاثة أعماق للمشكلة الغربية. عمق جيوثقافي، وآخر جيوسياسي مركب، وثالث جيواقتصادي.

يخص العمق الأول رفض الغرب الاعتراف ثقافياً بالإسلام. فلطالما جعل الغربيون من الإسلام عنواناً لكل ما يرفضون. حين كتب مونتسكيو عن «الاستبداد الشرقي» قبل أكثر من قرنين ونصف كان يكني بالإسلام عن استبداد معاش في الغرب آنذاك، لكن المطابقة بين الإسلام والاستبداد ستبقى حتى بعد أن دخل الاستبداد الغربي في ذمة التاريخ. ويسهل رفض أي حركة سياسية أو اجتماعية في منطقتنا بمجرد الإشارة إلى صفتها الإسلامية وقبل أي مناقشة، كما يقول فرانسوا بورغا في كتاب حديث له. لا مجال لتقصي هذا الجذر هنا، لكن من نتائجه السياسية أن القوى الغربية تخشى تغير الحكومات العربية لأن الإسلاميين هم من قد يستفيدون من ذلك. هذا أصل أساسي «للاستثناء الديموقراطي العربي». ونجد له سابقة تاريخية قديمة منذ عام 1860 حين خاطب نابليون الثالث العسكر الفرنسيين المتجهين إلى لبنان بالقول: «لا تتوجهوا إلى سورية بغرض الغزو بل لدعم السلطان ضد استبداد رعاياه وبربريتهم... تذكروا أن العلم الفرنسي يظللكم، هذا العلم المحترم من قبل أوروبا بأسرها، ومن ورائكم تقف دولة جبارة». وتعزز الموقف ذاته من وقائع حديثة مثل الثورة الإيرانية عام 1979 واغتيال الرئيس المصري أنور السادات 1981 وصولا إلى 11 سبتمبر 2001.

هذا لم يمنع كما نذكر لقاءات، وحتى تحالفات وقتية، بين قوى غربية وإسلاميين. بيد أن هذه كانت تحالفات وتفاهمات أداتية وعارضة بالضبط لأنها تفتقر إلى أي عمق ثقافي، أو لأن العمق الثقافي يزكي بالأحرى علاقة عداء بين الطرفين. وقد تكون نظرية «صراع الحضارات» لصموئيل هنتينغتون خطوة إضافية في تزويد العداء الغربي للإسلام بعمق ثقافي عالِم يتجاوز السياسة والمصالح السياسية، وتالياً في تثبيت ذاك العداء وتخليده. ومن جهتها، تمنح شتى التشكيلات «الجهادية» عمقاً ثقافياً وسنداً دينياً دائماً لصراعها مع الغرب بالكلام على «الجهاد ضد الصليبيين واليهود».

العمق الثاني لمشكلتنا الغربية جيوسياسي. وهنا ثمة ثلاثة أطوار أو أربعة؛ طور أول، عبرت عنه حملة نابليون على مصر أواخر القرن الثامن عشر، وذلك في سياق التنافس بين البريطانيين والفرنسيين. وطور ثان، تأخر عن هذا بأكثر من ثلاثة أرباع القرن، وهو طور الإمبريالية الكلاسيكية والتنافس الاستعماري على العالم، وقد أثمر احتلال أكثر البلدان العربية. وانتهى هذا الطور مع الحرب العالمية الثانية. وطور ثالث، واكب الحرب الباردة وانطوى على رهان غربي، أميركي بريطاني بالخصوص على جعل المشرق العربي حزاماً ثانياً في مواجهة الاتحاد السوفييتي بعد الحزام التركي الإيراني الباكستاني. الطور الثالث هو زمن القواعد العسكرية وأحلاف الدفاع عن الشرق الأوسط، كما هو معلوم. لكنه أيضا طور مواجهة الحركة القومية العربية والنجاح في إلحاق ضربة ساحقة لها في حزيران 1967. أما الطور الرابع التالي للحرب الباردة، فهو طور عودة النفوذ العسكري الغربي المباشر إلى المنطقة، ثم «الحرب ضد الإرهاب». على أن ثمة نواة صلبة ثابتة لهذا الجذر الجيوسياسي خلال الستين عاما الأخيرة، هي إسرائيل التي ما كان لها أن تنشأ في قلب العالم العربي وفي زمن الاستقلال العربي لولا كل أشكال الدعم الغربي ولولا الالتزام الغربي، العسكري والسياسي والمادي والأخلاقي، بها.

تكونت إسرائيل على حساب الفلسطينيين، وأظهرت نزوعاً توسعياً ثابتاً، وحظيت بعطف غربي فريد من نوعه على المستويات جميعها. إنها منبع ثري للتوتر بين العرب والغرب، ولاريب أنها سمّمت العلاقات بين الطرفين وأضعفت قدرة العرب على الانفتاح النفسي والثقافي على الغرب المتقدم.

وكما أن في العمق الجيوثقافي للمشكلة الغربية عنصراً جيودينياً، يتصل بالمنافسات والصراعات الإسلامية المسيحية في آسيا الغربية والبلقان، فإن في العمق الجيوسياسي عنصراً جيودينياً أيضا يتصل بصراع الذاكرات (جورج قرم) بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة.

العمق الثالث جيواقتصادي. الأمر يتعلق جوهرياً بالبترول هنا. من الوقائع المبتذلة أن %60 أو أكثر من احتياطي النفط العالمي يوجد في دول عربية. وأن السعودية هي البلد الأول في هذا المجال يتلوها العراق. والنفط هو دم الحضارة الصناعية طوال القرن الأخير تقريباً. ومعلوم أنه كان للعرب إسهام في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق نفطهم الرخيص.

البترول اقتضى على الدوام ترتيبات أمنية وسياسية واستراتيجية في منطقة الخليج والجزيرة العربية خصوصاً، ترتيبات تضمن ألا تقع أي حلقة من السلسلة النفطية، التنقيب والاستخراج والنقل والتصفية والتسعير والاستهلاك، في أيد يعتبرها الغرب معادية له. هذا بالخصوص بعد حرب 1973 التي واكبها استخدام جزئي جداً لسلاح النفط ضد دول غربية معادية للعرب، أميركا وهولندا بالخصوص. نذكر في هذا الصدد تشكيل قوات التدخل السريع الأميركية و«مبدأ كارتر» (إذا تعرضت إمدادات النفط إلى أميركا وحلفائها للخطر فإن أميركا ستستخدم القوة) في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين. ومعلوم أن لحروب الخليج الثلاثة، 1980، و1990-1991، و2003 صلة جوهرية بسياسات الطاقة على الصعيد العالمي. والشيء الأساسي بخصوص البترول هو ميل القوى الغربية النافذة، لاسيما أميركا بعد الحرب العالمية الثانية إلى النظر إلى منطقة الخليج كـ«بترولندة»، إقليم منزوع الصفات القومية والسياسية والثقافية، ومختزل إلى أرض للبترول. ومن الطبيعي، تالياً، أن تعكس السياسات الأميركية في هذا الحيز من العالم مقتضيات هذه النظرة من ترتيبات أمنية وسياسية، ومن غير المتوقع أن تكون لها أي صلة بالقيم الحديثة الخاصة بالديموقراطية وحقوق الإنسان واحترام سيادة الدول.

إذاً ثلاثة أعماق وثلاثة عناوين كبرى لمشكلتنا الغربية: الإسلام، إسرائيل، النفط. وهي منابع ثلاثة لعدم استقرار عالمنا، ثقافياً ونفسياً، أكثر حتى مما هو سياسياً وأمنياً.

يضاف إلى هذه الثلاثة أخيراً أن المجال العربي هو مسرح «الحرب ضد الإرهاب». وفي «الإرهاب» والحرب ضده تتكثف المشكلة الغربية بجذورها الثقافية والسياسية والاقتصادية، الإسلامية والإسرائيلية والبترولية.

 

*كاتب سوري

back to top