خلافة الإنسان في الأرض

نشر في 26-11-2007
آخر تحديث 26-11-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي

الإنسان خليفة الله في الأرض، ليس هو بمفرده بل بجماعته وأمته، فالخلافة فردية وجماعية، وهو استخلاف مشروط بإقامة العدل، فالظلم لا يبقى في الأرض، والاختيار ليس لإنسان بشخصه،بل لأفعاله، أو لشعب بعينه بل لتحقيقه كلمة الله كنظام مثالي للعالم.

خلق الله الأرض، وهو مالكها ووارثها، وسطّحها ليمشى عليها الإنسان ويكدّ فيها، فالإنسان خليفة الله في الأرض، مسؤول عن تعميرها من دون أن يؤدي ذلك إلى حكم سياسي «ثيوقراطي» باسم الحاكمية. خلافة الإنسان في الأرض خلافة عامة أي مسؤولية وأمانة حملها الإنسان طواعية واختياراً بعد أن عُرضت «الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ...»، عدلاً إن وفّى، وظلماً إن تخلى.

الإنسان خليفة الله في الأرض» إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً». ليس الإنسان بمفرده بل بجماعته وأمته، فالخلافة فردية وجماعية «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ»، وهو استخلاف مشروط بإقامة العدل، فالظلم لا يبقى في الأرض «قل عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ»، فالاختيار ليس لإنسان بشخصه بل لأفعاله أو لشعب بعينه بل لتحقيقه كلمة الله كنظام مثالي للعالم، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمساواة بين البشر، وهو ما يسمى أيضا بالتمكين، اللفظ الذي أصبح مشهوراً في علم الاجتماع بمعنى تمكين المرأة أي زيادة سلطتها ورفع المعوقات عنها «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ». وقد مكن الله للأنبياء، فالنبي هو النموذج الأول للإنسان «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ».

وتعني الخلافة أيضا تعمير الأرض وليس تدميرها، زرعها وليس جرفها، ريها وليس حجب الماء عنها، فالإنسان نشأ في الأرض وفيها يقيم، وعليها يموت «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»، ولا يعني الاستعمار هنا احتلال أراضي الغير والعدوان عليها وطرد شعبها منها. فالإعمار ليس ظلماً لأحد وليس عدواناً من أحد كما فعل المستعمرون والمستوطنون في الوطن العربي والعالم الإسلامي.

والإنسان أمين على خزائن الأرض مسؤول عن زراعتها وتعميرها وإطعام الناس وعدم تجويعهم أو حصارهم أو منع المياه والطاقة عنهم «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ».

وكل شيء في الأرض مسخر لمصلحة خلافة الإنسان في الأرض «وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» لهبوط المطر طبقا لحركة الريح، فالطبيعة طيّعة للإنسان، وقوانينها خاضعة لإرادته مثل إقامة السدود والخزانات وطواحين الهواء وتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ومساقط المياه وحركة الأمواج.

وهو خليفة قوي في الأرض، والخلفاء فيها ليسوا ضعفاء أو مستضعفين، والمؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف، فالضعف وهم، وتضييع للخلافة، وتخل عن الأمانة «قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ». ويثبت التاريخ أن المستضعفين في الأرض الذين على حق يتحول ضعفهم قوة، فقد خلقت الأرض للمستضعفين، ووراثتها لهم «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ»، وقد نشأت كل أمة مستضعفة كما حدث للإسلام في أول عهده وللنصارى في بداية النصرانية ثم تحولوا إلى قوة «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ».

والاستضعاف وقتي في زمان ومكان معينين، والأرض واسعة، إن استضعف قوم في بقعة تكون الهجرة إلى أرض فسيحة رحبة واجبة كما حدث في هجرة الرسول، وهجرة موسى، وهجرة إبراهيم، «وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا»، فكل عسر بعده يسر كما أن كل يسر بعده عسر، وتلك هي هشاشة البشر، لا تضيق الأرض على أحد، فرحمة الله واسعة «وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ».

والضرب في الأرض أي الجهاد فيها والكد عليها ضروري، والموت شهادة «وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا»، ومن لا يجد من يجاهد به يجاهد بالعلم أو بخدمة المحاربين ومداواتهم في الصفوف الخلفية «لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ». والجهاد في سبيل الله يبيح التقصير في الصلاة تطبيقا لواقعية الشريعة وقواعد الضرورة «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا».

وبالرغم من خلافة الإنسان في الأرض فإن ذلك لا يستدعي منه الكبر والخيلاء «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ». فالله وحده هو الذي له الكبرياء في الأرض، فالإنسان بالرغم من عظمته لوعيه بنفسه وبالناس وبالعالم فإن الأرض والجبال أقوى منه «إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا». وقد علا فرعون في الأرض، وتكبر، وتجبر، وتألّه، والمسرف في تعظيم قدرته «وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ». الكبرياء في الأرض أي الاعتزاز بالنفس للأنبياء وللمؤمنين «وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ».

ومن يتولى عن الخلافة أو يعمل على نقيضها فإنه يفقد دوره في الأرض، وبدلا من أن يسير عليها، ويجاهد ويكبر فإنه يتوه فيها كما حدث لبني إسرائيل «قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ». ومن يثــّاقل إلى الأرض، ويجاهد مرغما غير مؤمن به يكون نوعا من النفاق «مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ»، ومن يخلد إلى الأرض من دون أن يسعى فيها لا ينل أي رفعة أو عزة عليها، «وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ»، ولا يستطيع الإنسان في الأرض أن يعجز الله ويعمل ضد إرادته فهناك حدود لقدرة الإنسان تثبت عجزه إذا ما تجاوز الحد «أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ»، ومن يعجز الله فإنه يبوء بالخيبة «وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ»، ومهما شق نفقا في الأرض أو شيّد سلماً إلى السماء فإنه لن يستطيع إعجاز الله «فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ». فقد وقع في الغواية واستهوته الدنيا «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ». فغواية الشيطان الإنسان ثأر من خلافته في الأرض «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» وقال «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا».

والجهاد في الأرض فعل حر طبيعي تلقائي إلا أنه أحيانا يتطلب المقاومة في حالة العدوان، فالصراع جزء من حياة البشر، «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ»، ومع ذلك حرية الإيمان مكفولة للجميع، فلا إكراه في الدين «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا».

وبالرغم من خلافة الإنسان في الأرض فإن الأرض وما فيها عرض زائل لا يبقى. «حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ»، وما يبقى هو فعل الإنسان فيها ويخلد به عليها «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، وذلك ما يثبته التاريخ، إذ تم تمكين الناس من الأرض ثم ضاعت منهم لأنهم لم يتبعوا قانون العدل «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ»، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، في العمل الصالح والسبق نحوه عن جميع الأمم «وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ»، لذلك كان التأمل في التاريخ والعبرة بالآثار وسيلة للاعتبار، والتمييز بين ما هو جوهري، العمل الصالح، وما هو عرضي، زينة الدنيا «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ»، فالتاريخ هو خير شاهد، والتجربة أفضل تصديق «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ».

ولن يستطيع الخليفة في الأرض إن تخلى عن مسؤولياته أن يعوض خسارته حتى لو أتى بملء ما في الأرض ذهباً ليفتدي نفسه، فقد انتهى وقت العمل في الحياة وجاء يوم الحساب «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى»، ولا يستطيع أن يكفّر عن نفسه أو يفتديها بكل ما في الأرض «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ». فساعة الحساب لا تنفع فيها الفدية «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ»، وانتهت الدنيا، وقت العمل والكفاح، وجاءت الآخرة لإعلان النتيجة، حينئذ لا ينفع الندم أو الفداء «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا».

* كاتب مصري

back to top