رمضان في القرآن

نشر في 24-09-2007
آخر تحديث 24-09-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي

بينما ذكر لفظ «رمضان» في القرآن الكريم مرة واحدة، ذكر لفظ الصوم ومشتقاته أربع عشرة مرة بستة معان مختلفة تدور كلها حول وظيفة الصوم، وهي معانٍ متكاملة تربط الصوم بالتاريخ وبالله وبالآخرين.

اليسار الإسلامي يخرج من النص أيضاً عن طريق تحليل مضمون الألفاظ. فقد ذكر لفظ «رمضان» في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله تعالى «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (2 : 185)

ولفظ «رمضان» يعني اشتقاقاً الحَر، من الفعل رَمِضَ الحر أي اشتد، ولما نقلت أسماء الشهور من اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر رَمض الحر، فإذا ما وافق الشهر الحرّ كان ثوابه أعظم، ونظراً إلى دورة السنة الهجرية فإنه ينتقل من الصيف إلى الشتاء رجوعا إلى الوراء، وتظل النية الأولى صادقة. وفي هذا الحر الشديد، والقدرة على السيطرة على حاجات البدن، إعلاناً لاستقلال الإرادة وسمو الروح والإحساس بالمحرومين والفقراء والجائعين والعطشى، ينزل الوحي بعد أن تهيأت النفس له. استعداد البدن مقدمة لاستعداد الروح، وتهيؤ الروح مقدمة لنزول الوحي.

هذا القرآن بينات من الهدى والفرقان، يبين الخير ويميزه عن الشر حتى يهتدي الإنسان في عمله، ويفرق بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ، نظراً وعملاً. مهمة القرآن البيان ورفع الخلط ومساعدة البصيرة بعيداً عن أهواء البشر ونسبيتها.

والصوم مشتق من فعل «صام» ويعني الإمساك عن الطعام أو الاعتدال كما يقال «صام النهار» أي قام قائم الظهيرة و«صامت الريح» أي توقفت عن الحركة، والصوم هو الصمت أيضا في آية «إني نذرت للرحمن صوماً»، فالصوم استقامة، ورفع القامة، وسمو الهامة، وليس الهزال أو الضعف أو الاستعياء.

ولما كان الصوم وسيلة لاستقامة الإنسان بدناً وروحاً، فالمرض والسفر مانعان يؤجلان الصوم إلى وقت آخر، فالإسلام يسر وليس عسراً، وليس في هذا الدين حرج، ولا يجوز تكليف الإنسان ما لا يطيق.

والصوم شهر بكماله وتمامه، تمييزاً لشهور العام في أوقات متميزة مثل تميز أوقات الصلوات في النهار، يتطلب التكبير والشكر على الهدى، فشكر المنعم عند المعتزلة من الواجبات العقلية.

هذه هي المعاني المتضمنة في الآية الوحيدة التي ذكر فيها لفظ «رمضان» في القرآن الكريم.

وفي حين ذكر لفظ «رمضان» في القرآن الكريم مرة واحدة، ذكر لفظ الصوم ومشتقاته أربع عشرة مرة بستة معان مختلفة تدور كلها حول وظيفة الصوم، وهي معانٍ متكاملة تربط الصوم بالتاريخ وبالله وبالآخرين.

أولاً: الصوم سُنة عن الأمم السابقة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» (2 : 183)، تواصلاً مع الديانات السابقة. فالإسلام لم يبدع سُنة جديدة، بل أقر سُنة كانت موجودة في الشرائع السابقة، في اليهودية والمسيحية، فجوهر العبادة واحد وإن اختلفت أشكالها، والإسلام آخر شريعة تكمل الشرائع السابقة بعد تأكيدها.

ثانياً: الصوم شهراً في العام من أجل التمييز بين الشهور من دون صوم الدهر كله أو إفطار العمر كله «فمن شهد منكم الشهر فليصمه» (2: 184). كما تتميز أوقات الصلوات أثناء النهار عن بقية ساعاته، وهو تأكيد على الإحساس بالزمن وبأن الأوقات للأفعال، كما أنه صوم منذ الشروق حتى الغروب وهو إحساس آخر بالزمن، زمن النهار المتميز عن زمن الليل.

ثالثاً: الصوم صمت، وهو أحد مظاهر العبادة ضد اللغو والمجادلة كما فعلت مريم ابنة عمران «فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» (19: 26)، ومظهر من مظاهر التقوى الباطنية، والثقة بالنفس واتهام الزور، وبراءة الإيمان.

رابعاً: لا فرق في أداء الصوم بين الرجال والنساء «وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ» (33 : 35). كما أنه لا فرق بينهم في الإسلام، والقنوت، والإيمان، والصدق، والصبر، والخشوع، والصدقة، وحفظ الفروج، وذكر الله، يتساوى الرجال والنساء في التكليف، والتكليف واجب، والمساواة في الواجبات تقتضي المساواة في الحقوق.

خامساً: لا يمنع الصيام معاشرة النساء بعد الإفطار «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ» (2 : 187) دون أن يكون المسلم معتكفا في المسجد، وطوال الليل تخفيفاً عن الأمة، واعترافاً بحاجة الرجال إلى النساء وحاجة النساء إلى الرجال. كان الصوم قبل ذلك أثناء النهار، وحين يفطر الصائم يحق له الطعام ومعاشرة النساء، فإذا غفلت عيناه ونام يصبح صائماً إلى اليوم التالي. ولم يستطع عمر بن الخطاب بعد أن غفا ثم استيقظ أثناء الليل أن يمنع نفسه معاشرة زوجه، فنزلت آية التخفيف «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ» والإسلام دين اليسر وليس دين العسر، لا رهبانية فيه ولا نسك، لا صوم فيه للدهر كله ولا قيام لليل كله، ولا عزوف عن النساء.

سادساً: وظيفة الصوم هي التكفير عن الذنوب وتطهير النفس، فالذنب ضعف في الإرادة، والصوم تقوية لها، والإثم تهاون في الروح، والصوم إعلاؤها. ويذكر القرآن ذنوباً سبعة:

أ- الإفطار في رمضان من دون سبب أو عذر سفر أو مرض «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ» (2 : 84). ولكن إطعام المسكين له أولوية على الصوم أي التكفير العملي عن الذنب بإطعام المسكين وهو الهدف من الصوم، فإن لم يشعر المفطر بآلام الجوع فإن عليه إطعام الجائع.

ب- إذا كان الحاج غير قادر على حلق الرأس أو مريضا لا يستطيع أن ينتظر الهدْي أن يبلغ محله «فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ» (2 : 196). فالصيام هنا يأتي قبل الصدقة والنّسك، شعيرة بشعيرة.

جـ- فإن لم يجد الحاج الهدْي ولم يستطع الضحية فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد العودة أي عشرة أيام كاملة «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ» (2 : 196)، والصيام هنا أكثر لأن الحاج لم يستطع التضحية، تعميقاً للإحساس بالآخرين إن لم تتم مساعدتهم بالفعل.

د- القتل الخطأ كفارته صيام شهرين متتابعين توبة إلى الله، إن لم يجد رقبة يحررها أو دفع دية إلى أهل القتيل «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ» (4 : 92). والأولوية لتحرير الرقبة لأن العبودية تساوي القتل، وتحرير الرقبة إحياء للقتيل، ثم دفع الدية إلى أهل القتيل طبقاً لعادة العرب وتعويضاً بالمال عن المفقود، ويأتي الصيام في الدرجة الثالثة كنوع من أضعف الإيمان لتطهير القلب، والإعلان عن براءة النفس، والسيطرة على الإرادة التي أخطأت وإن كان خطؤها عن غير عمد.

هـ- الحنث بالإيمان كفارته صيام ثلاثة أيام، إن لم يستطع الحانث إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ» (5 : 89). الصيام يأتي هنا في المرتبة الثالثة بعد تحرير الرقبة والإطعام والكسوة.

و- الظِّهار وهجرة الزوج في الفراش، كفارته أولاً تحرير الرقبة. فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» (4 : 85) فتحرير الرقبة يعادل إشباع الزوج.

ز- الصيد في الأشهر الحرم كفارته الصوم من دون تحديد بعدد الأيام أو الشهور «أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ» (5 : 95) إن لم يستطع أن يسوق مثل ما قتل هدياً إلى الكعبة أو إطعام المساكين، فالصوم هو الذي يغسل الذنوب.

* كاتب ومفكر مصري

back to top