في معاني الديموقراطية: التعدّدية ومسؤولية المواطن
تقتضي الصياغة الديموقراطية لعلاقة الدولة بالمجتمع هيمنة ثقافة سياسية تقبل التعددية، ولا أعني هنا مجرد الاعتراف أو التسليم بوجود الرأي الآخر بمنطق الأمر الواقع، بل الإيمان بأهمية التنوع في الرؤى والأطروحات والبرامج بهدف تحقيق المصلحة العامة. فثقافة التعددية الحقة إنما تستند من جهة إلى رفض الادعاء بقدرة أي طرف من أطراف اللعبة السياسية على الاحتكار المطلق والدائم للإجابة الأفضل (بغض النظر عن معايير الأفضلية هذه) على التحديات الراهنة، وتستند من جهة أخرى إلى قناعة مؤداها أن ماهية المصلحة العامة ذاتها إنما تتحدد في ظل حوار متواصل بين قوى المجتمع بمواقفها المختلفة تتراجع معه مساحات «المرفوض» و«الممنوع» و«المحرم» باطراد. على النقيض من ذلك، تُظهر الأوضاع الراهنة في معظم المجتمعات العربية غلبة لتوجهات مضادة قد لا يجافي إجمال وصفها بعبارة التعددية المشروطة أو المقيدة الحقيقة تماماً. فالنخب الحاكمة، وإن أتت من بعضها مبادرات إصلاحية جزئية خلال الأعوام الماضية، مازالت ترغب، بالأساس، في إدارة الشأن العام وفقاً لأجندات وضعت هي بنودها بمفردها واستبعدت منها ما لا يناسبها من قضايا أو مقاربات. أما القوى الأخرى من أحزاب معارضة وهيئات ومنظمات فاعلة في مجال المجتمع المدني-الأهلي فتعيد إنتاج جوهر الاستبعاد هذا فيما بينها، إن على أرضية خلافاتها الإيديولوجية أو بالنظر إلى مدى قربها أو بعدها عن الطرح الحكومي. الأخطر من ذلك، وعلى الرغم من بعض المحاولات الرسمية في عدد من المجتمعات العربية لتشجيع مشاركة الشباب والمرأة في الشأن العام، هو أن ذات القبول المشروط للتعددية والثقافة الاستبعادية المترتبة عليه يشكلان معاً النمط الأساسي لعلاقة الأجيال المتتابعة من السياسيين والحركيين والمفكرين على نحو يمكن الرجال الأكبر سناً والأقدم خبرة من تهميش القادمات والقادمين الجدد في لحظات كثيرة بادعاء الحكمة والنظرة الثاقبة. تحد مثل هذه العلاقة الخطية بين متغيرات العمر والنوع والخبرة وصواب الرؤية من زخم التعددية وتفرض شعورا بالرتابة السياسية لا يتناسب مع أمل التحول الديموقراطي. فالأخير يقتضي من بين أمور عديدة غلبة إدراك عام بإمكان القفزات النوعية إلى الأمام والتخلي الجزئي عن خطوط السير التقليدية.على صعيد ثان، تنظر الأغلبية الساحقة من العرب إلى دور الدولة بصورة تقترب كثيراً من رمزية «الدولة الأب» أو «الدولة الحامية» المسؤولة بمفردها عن رخاء المجتمع وسعادة الأفراد في مقابل ما يقدمونه لها من فروض الطاعة والولاء. ولا ترتب هذه الظاهرة، وهي التي ساهمت أجهزة الدولة الحديثة في خلقها خاصة خلال العقود الماضية، سلسلة لا متناهية من التوقعات المتصاعدة تجاه ما يمكن أن تقوم به الدولة وحسب، بل تؤدي، وهذا هو الأخطر، إلى انتشار علاقة اعتماد مرضية بينها وبين طبقات وفئات المجتمع وكذلك ذيوع رؤية سلبية لدور الهيئات والمنظمات الأهلية وغير الحكومية ترى بها على الدوام بديلا سيئا ومريبا للدولة. نحن هنا أمام ثقافة تبعية وانتظار وشكوى لا تثمن المبادرات الذاتية ومحاولات الفعل خارج الفضاء الرسمي. والواقع أن عمليات التحول الديموقراطي لا يمكن لها أن تثمر وتنطلق إلا إن هبط سقف الاستحقاقات المجتمعية المتجهة إلى الدولة، وبدأ المواطنون في النظر إليها باعتبارها فاعلا رئيسيا من بين فاعلين عديدين يشاركونها المسؤولية. فما الذي يدفع دول ونخب حاكمة تطالبها الأغلبيات بلعب جميع الأدوار على الأصعدة المختلفة وتحاسبها إن أخفقت إلى التخلي عن الرغبة - وهي في هذا السياق منطقية بل ومشروعة - في احتكار السلطة. تمثل إذاً إعادة اكتشاف مسؤولية المواطنين وقوى المجتمع عن مستقبله وتفعيل إمكاناتها الوجه الآخر لتحول ديموقراطي يروم الحّد من احتكار السلطة وتعميق المشاركة الشعبية. أخيراً، تعني ثقافة الديموقراطية التأكيد على مبدأي حيادية الدولة حيال الخصوصيات العرقية والدينية والمذهبية ومدنية السياسة المستندة إلى علاقة المواطنة المتساوية كمكونات رئيسية للمفهوم لا تستقيم بدونهما الحياة الديموقراطية. فلا يسع الدول الحديثة إزاء تعدد هويات الجماعات المكونة للمجتمع، حتى حين يتعلق الأمر بأغلبيات وأقليات واضحة المعالم، إلا أن تؤسس لفعلها العام وشروط الرضاء الشعبي عنه بصورة مدنية تبعد عن إطلاقية العرق الواحد أو الدين الواحد وتركز على صناعة التوافق حول الشأن العام وصياغة مساحات المشترك بين المواطنين وتوظيفها كموجه أخلاقي وقيمي للسياسة بصورة كلية. ويتطلب ذلك بالمقابل سيادة فهم مجتمعي للدين وللمذهب يحمي حرية ممارستهما في المجال الخاص - أي مجال الفرد والأسرة - ويُعلي من شأن التعدد والتنوع عند التعامل مع الرؤى المستندة إليهما ويسمح للقوى والمؤسسات المعبرة عنهما بصياغة خطابات وبرامج سياسية إن أرادت، شريطة احترام التعددية الحقة بما تعنيه من رفض احتكار الحقيقة المطلقة وقبول وجود تصورات معلنة للسياسة لا ترتكز على الدين أو المذهب، بل قد تتناقض معهما في بعض الأحيان. فقط مثل هذه الثقافة المدنية، وهنا مربط الفرس، هي القادرة على خلق مناخ من الحرية الفكرية اللازمة لإحداث نهضة إصلاحية وتحول ديموقراطي فعلي في العالم العربي. كبير باحثين في مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي– واشنطن