الشاعر جورج جرداق: هذه هي قصة صداقتي لعبد الوهاب وأم كلثوم

نشر في 19-03-2008 | 00:00
آخر تحديث 19-03-2008 | 00:00
No Image Caption

ليس من السهل أن نوجز حياة الشاعر والكاتب والإعلامي جورج جرداق في سطورٍ تُقدمه للقارئ بعد انقطاع طويل. إلا أن الشاعر الذي وصفه الموسيقار محمد عبد الوهاب بأنه «أحد أربعة من أصدقائه. (يعني أحمد شوقي والأخطل الصغير وعلي محمود طه وجورج جرداق) هم من أكبر الشعراء الذين عرفهم في حياته»، هذا الشاعر لا تزال قصائده تتردّد في ألحان وأغنيات كبار المطربين الذين غنّوا شعره في الزمن الجميل، من أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ورياض السنباطي ووديع الصافي ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي وهبة القواص.

معه هذا اللقاء.

لم تصدِر، حتى الآن، ديواناً شعرياً يضمّ قصائدك التي يردّدها الناس عبر القصائد التي غنّاها عدد من المطربين البارزين وفي طليعتهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ما الذي يحول دون إصدار هذا الديوان؟

حالت دون ذلك الأحوال الأمنية والاجتماعية المضطربة غاية الإضطراب والتي تزداد سوءاً عاماً بعد عام، ابتداءً من السنة 1975 حتى يومنا هذا. ومن جهة ثانية، عدم اطمئناني الى أمانة الناشرين بصورة عامة في لبنان وسائر الديار الشرقية. لديّ الآن أكثر من خمسة عشر كتاباً مخطوطاً معدّاً للنشر بين مجموعات شعرية وروايات وأبحاث ذات مواضيع هامة. مع ذلك أراني متردداً عن نشرها للسببين المذكورين.

هل تعتقد أن غناء هذه القصائد أضاف الكثير الى شعر ك ؟

ما ينتج من غناء القصائد لا يتعلق بما أعتقده أنا أو يعتقده سواي في هذا الشأن، بل بواقع منطقي: غناء الشعر لا يضيف كثيراً أو قليلاً من الوزن والقيمة الفنّية لهذا الشعر، ولكنه يسهم إسهاماً كبيراً في نشره وإيصاله الى جميع الناس على اختلاف طبقاتهم.

يعتقد عدد من النقاد أن وظيفة الشعر تبدّلت مع تنوع مصادر النص الشعري، وأن أبعاد التجربة الشعرية تتجلى في القراءة أكثر مما تتجلى في «السماع» أو في أطرها البلاغية التقليدية، الى أي مدى توافق هذا الرأي؟

القيمة الحقيقية للنص الشعري لا علاقة لها بطريقة إيصال هذا النص الى المتلقّي بالقراءة أو بالسماع، بل بمقدار ما فيه من اكتمال العمل الفنّي في الصورة والمادة، وبما بين عناصره جميعاً من وحدة بحيث لا يُجزَّأ ولا ينفصل بعض عناصره عن بعض. أما من حيث تنوّع أو تحوّل مصدر النص الشعري وفق تعبيرك، فأنا لا أؤمن بهذه النظريات الباردة التي تريد أن تُخضع الثوابت الجمالية في العمل الفنّي بعناصره جميعاً لـ«الموضة» السائدة آنياً في هذا العصر أو هذا البلد. ليس في الفن قديم وجديد وتقليدي وتحديثي. هنالك عمل فني صادق وسليم وجميل لا يتأثر بالنظريات الموضوعة وفق الأهواء والمشارب. هنالك عمل «مُوضويّ» سخيف يصدر بإسم «الفن» ولا يترك أثراً في النفوس والمشاعر والعقول ولا يتجاوز عمره حدود الزمان والمكان اللذين يولد فيهما.

كيف تفسر تراجع الأغنية العربية على المستوى الفني؟

تراجع الأغنية العربية صفحة من صفحات التراجع الشامل في كل باب. نحن نعيش في ديار تخضع لأنظمة سيئة وفاسدة في معظم مجالاتها، يستبدّ فيها وحش المال بكل ما يتعاطاه الناس أفراداً وجماعات، وبكل طرق التعامل والتفاعل في ما بينهم فالمجتمع جسم متكامل متفاعل كل ما فيه يؤثر بكلّ ما فيه على الصعد كافّة. ووحش المال في مثل مجتمعاتنا هو الذي يرسم الطريق للفئات والطبقات كلها ويعيّن لها الاتجاهات والغايات في كل ما تعمل وتنتج. ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية هي الناشر الأقوى والأول للأعمال الغنائية، وهي، عندنا نحن، الأداة التي يستخدمها وحش المال لبسط سلطانه في ساحة الغناء، وتسيّرها الروح القاصرة الفاجرة بصورة مطلقة.

في ما مضى كانت في لبنان وسيلة إعلام واحدة هي «الاذاعة اللبنانية» التابعة لوزارة الإعلام. وكانت في تلك الإذاعة لجنة من عدد من الشعراء والملحنين والعازفين، لمراقبة النصوص الشعرية والألحان الموسيقية المقدّمة للتسجيل والبث، وللنظر في صلاحية الأصوات التي ستؤدي هذه النصوص الملحنة فإمّا أن تُقبل أو ترفَض وفْق ما تتصف به وما فيه من إمكانات. وفي هذا المناخ، برز المطربون ذوو القيمة الحقيقية في عالم الغناء أمثال فيروز، وديع الصافي، نجاح سلام، ماري جبران، سعاد محمد ونصري شمس الدين! بعد ذلك فطن التجار، تجار المال والسياسة الى أهمية وسائل الإعلام في «خدمة الوطن...» فاقتنوا العشرات من الوسائل المسموعة والمرئية، وعمّموا الروح التجارية من خلالها على كل ما يُسمع ويُشاهَد في المجال الـ «فنّي» وأفلت المستنفعون من أهل التفاهة والادّعاء والتطاوُل والغباء وعيّنوا أنفسهم «فنانين» شعراء وملحنين ومطربين.

أعلم أن لك عملاً مسرحياً يعالج هذا الموضوع.

انه مسرحية «المطرب» التي مثلها عدد من المشخصين على رأسهم الممثل والملحن والعالم الموسيقي القدير فؤاد عواد، والممثلة المميزة انطوانيت عقيقي. وفيها عرض واضح وفاضح وضاحك لأحوال جميع الذين يتعاونون في مجتمعاتنا لتشويه الغناء ومسْخ معناه: الشويعر والملحن والمؤدّي والمخرج ووسائل الاعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والمستمعين! كل هؤلاء أخذوا نصيبهم من المدح والتكريم والكشف عن قدرتهم في إضحاك المشاهدين عليهم في هذه المسرحية!!

ثمة من يروي أنك عدلت مطلع قصيدة «هذه ليلتي» نزولاً عند رغبة أم كلثوم؟ ما هي حقيقة ذلك؟

السبب في ذلك أن المقطع الأول من قصيدة «هذه ليلتي» كان يحتوي على كلمة «داود». وفيما كنا ذات ليلة في سهرة عند أم كلثوم، محمد عبد الوهاب وأنا، إقترحت أم كلثوم حذف كلمة «داود» فاعترضنا على هذا الاقتراح، وقلنا لها: لماذا يستحسن أن نحذف كلمة «داود» هذه؟ ألم يسبق لأحمد شوقي أن ذكر داود مراراً عدة في شعره، وغنى عبد الوهاب هذا الشعر من دون أن يكون هنالك أي حرج عليه في ذلك؟ الا يردّد المشارقة في كل أقطارهم هذا البيت الذي غناه عبد الوهاب في إحدى قصائد شوقي منشداً يقول:

ليلى! تُرى البيد قد مادت بآهلها

أم هل ترنَّم، بالمزمار داودُ؟

فقالت أم كلثوم: في ذلك العهد الذي غنى فيه عبد الوهاب هذه القصيدة، لم تكن بجوارنا دولة اسرائيل التي يحمل عَلَمُها اسمَ «نجمة داود»! وأنتما تعلمان أن شعبنا في الشرق يحب التعليق على كل ما يسمع وترديد الكلمات التي يسمعها على طريقته وتفسيرها كما يطيب له. وعلى هذا، لماذا نفسح أمامه في هذا المجال؟» واقتنعنا بوجهة نظرها. وفي الليلة نفسها غيّرت البيت الذي يحتوي على كلمة داود.

من المعروف أن عبد الوهاب كان قارئاً للشعر وأنه كان صديقاً لمعظم شعراء عصره. كيف بدأت صداقتك لعبد الوهاب؟

عندما صدرت أغنية «الكرنك» لمحمد عبد الوهاب، كنت طالباً في أحد الصفوف الثانوية بالكلية البطريركية في بيروت. وكنت شديد الإعجاب بعبد الوهاب وبأغنية الكرنك «هذه بصورة خاصة»، فاندفعتُ الى أن أنظم قصيدة في عبد الوهاب ونشرت القصيدة في مجلة «الأحد» لصاحبها نقيب الصحافة رياض طه غفر الله له، ومما قلته في هذه القصيدة مخاطبا عبد الوهاب:

ملأتَ الشرقَ اَلحاناً عِذاباً فَرَقَّ لها وردّدَ ما تغنّي

وأدركتَ الحياةَ على مداها جمالَ قصيدةٍ وجمالَ لحنِ

وقرأ عبد الوهاب القصيدة، فأعجب بها إعجاباً شديداً عبّر عنه برسالة شكر بعث بها اليّ يومذاك، ولا أزال أحتفظ بها في خزانة عندي تحوي رسائله اليّ. وبعد ثلاثة أشهر حضر عبد الوهاب الى لبنان للاصطياف فيه على عادته في كل عام، ونزل في فندق سميراميس في بلدة بحمدون. كان يرافقه يومذاك مطرب مصري، فأرسله الى بيروت وقال له: «تدور على كل الصحف بحثاً عن جورج جرداق وتظل تبحث عنه الى أن تجده، وإياك أن تعود الى هنا إلا وهو معك!» وهكذا كان. فقد عثر الأخ المطرب عليّ ومضينا معاً الى بحمدون. وكانت تلك فاتحة علاقتنا الوثيقة الدائمة التي استمّرت طيلة العمر.

وأم كلثوم؟ كيف تم تعارفكما (وتعاونكما) الذي أدى الى إنجاز حدث فني كـ«هذه ليلتي»؟

كنت في مصر. وذات ليلة مضيتُ في صحبة الصديق مصطفى أمين صاحب «دار اخبار اليوم» الصحافية لحضور حفلة زفاف أحد الأصدقاء في فندق هيلتون. وهناك وجدنا أم كلثوم التي دعتنا الى طاولتها. بعدما تعارفنا وفي أثناء السهرة أظهرت أم كلثوم سرورها الشديد بهذه الجلسة وطاب لها الحديث. وعندما انتهت السهرة، الحّت علينا كي نمضي في الليلة المقبلة الى منزلها لقضاء السهرة عندها. وهكذا كان ومنذ ذلك الحين، كانت أكثر سهراتي في مصر في منزلها. وكانت عندما تحضر الى بيروت تتصل بي عند حضورها كي أكون جليسها الدائم حيث تكون. وفي سهراتنا في القاهرة، حدثت طرائف كثيرة أحدثك عنها في مناسبة أخرى إن شاء الله.

من تقرأ ومن تسمع في هذه الأيام؟ هل تقرأ أحداً من شعراء هذا الجيل؟ هل تسمع أحداً من المطربين الذين يظهرون على مسارح الغناء وشاشات التلفاز؟

أقرأ في هذه الأيام، كما في سائر الأيام الشعراء الجديرين بهذه الصفة من مختلف الأمم. وفي طليعة الذين يطيب لي أن أقرأ من شعرهم حتى القصائد التي أحفظها غيباً: أبو الطيب المتنبي وأبو نواس.

back to top