عزل الهوية

نشر في 06-01-2008
آخر تحديث 06-01-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت ذات يوم، حين مررت لاصطحاب عالم الاقتصاد أمارتيا سِـن الحائز على جائزة نوبل، من الفندق الذي نزل به، سألتني موظفة الاستقبال إن كنت السائق الذي سيقله. ترددت قليلاً ثم أومأت إليها بالإيجاب. ويبدو أن هوية السائق كانت هي الأوضح في نظر موظفة الاستقبال من بين هوياتي العديدة في ذلك اليوم.

كان هذا الشعور بتعدد الهويات من بين الأمور التي علق عليها سِـن على نحو مازحٍ في كتابه الهوية والعنف: «ذات الشخص قد يكون، على سبيل المثال، مواطناً بريطانيا من أصل ماليزي ذي سمات عرقية صينية، ويعمل سمساراً في البورصة، وليس نباتياً، ويعاني الربو، ويتحدث عدة لغات، ويمارس رياضة كمال الأجسام، ويقرض الشعر، ويعارض الإجهاض، ويراقب الطيور، ويهوى علم التنجيم، ويؤمن بأن الله خلق دارون ليمتحن به السذج».

ويتبين لنا من خلال القدر الأدنى من التأمل في الذات أن الصعوبة التي نجدها في الإجابة على سؤال «من أكون؟»، تنشأ من التعقيد الذي نواجهه في التمييز بين هوياتنا العديدة وفهم بنية وتركيب هذه الهويات. مَن أكون حقاً، ولماذا يتعين عليّ أن أتقبل الناس الذين يحاولون اختصاري وتحجيم ثراء هويتي في إطار بُـعدٍ واحد فقط من أبعادها؟

إلا أن هذا النوع من الاختصار يكمن وراء أحد المفاهيم السائدة اليوم، ألا وهو مفهوم التعددية الثقافية، الذي يفرض على المرء أن تغلب هوية واحدة على بقية هوياته الأخرى، بحيث تخدم كمعيار وحيد لتنظيم المجتمع في طوائف ومجموعات متميزة واضحة المعالم.

كثيراً ما يقال لنا في وقتنا الحاضر إن سبل اندماج الناس في المجتمع لا تتعدى سبيلين: النموذج «البريطاني» الذي يتسم بالتعددية الثقافية، والنموذج «الفرنسي» القائم على تقبل القيم الجمهورية، وفي المقام الأول مبدأ المساواة.

يقوم النموذج الاجتماعي البريطاني، وفقاً للمفهوم التقليدي، على التعايش بين الجماعات المختلفة، على أن تواصل كل جماعة تقيدها بعاداتها وتقاليدها بينما تحترم قوانين البلاد- أو بعبارة أخرى اتحاد فيدرالي غير رسمي بين الجماعات المختلفة. إلا أن هذا المفهوم الشائع مغلوط بشكل فادح، وذلك لأن القانون البريطاني يكفل للمهاجرين من دول الكومنولث كافة حقاً استثنائياً: ألا وهو حق التصويت في الانتخابات البريطانية، وحتى الوطنية منها.

يعلم المواطنون من خلال التجارب أن الديموقراطية لا تتألف من حق التصويت الشامل فحسب، بل إنها تتطلب أيضاً وجود حيز عام مفتوح أمام الجميع على قدم المساواة. وعلى هذا فإن مجموعة ضخمة من المهاجرين في المملكة المتحدة يتقاسمون مع البريطانيين الأصليين حق المشاركة في المناقشات العامة المتصلة بالقضايا كافة ذات الاهتمام العام، سواء كانت محلية أو وطنية. ولأن المساواة الأساسية مكفولة على هذا النحو، فإن النظام البريطاني قادر على التكيف على نحو أفضل مع قدر أعظم من التعبير عن الهويات المميزة.

ولكن يبدو أن الحكومة البريطانية ذاتها تتناسى الشروط الأساسية الراسخة لهذا النموذج البريطاني من خلال محاولة إرضاء رغبة كل جماعة في اكتساب الاعتراف العام بها من خلال الترويج رسمياً لأمور مثل المدارس الطائفية المدعومة من جانب الدولة. ويرى سِـن أن هذا أمر مؤسف لأنه يقود الناس إلى إعطاء واحدة من هوياتهم- ولنقل الدينية، أو الثقافية- الأولوية قبل كل هوياتهم الأخرى في وقت كان ينبغي فيه علينا أن نحرص على توسيع الآفاق الفكرية للأطفال. وباعتناق هذا النوع من الفصل الذي تجسده مثل هذه المدارس، يقول البريطانيون الآن: «هذه هويتك ولا ينبغي أن يكون لك أي شيء غيرها». وهذا التوجه يشكل تكريساً للانعزال المجتمعي وليس التعددية الثقافية.

أثناء السنوات القليلة الماضية، تعرض «النموذج الفرنسي» أيضاً لإساءة التفسير، بسبب الارتباك بشأن قواعده الأساسية ـ الاندماج الحقيقي في حياة المجتمع، وهو ما يعني المساواة الحقيقية في كل ما يرتبط بالوصول إلى الخدمات العامة، ونظام الضمان الاجتماعي، والمدارس والجامعات، والوظائف، وما إلى ذلك. فالمذهب الجمهوري يكفل لكل فرد، بصرف النظر عن هوياته الأخرى، المساواة في الحقوق بهدف تحقيق غاية المساواة الشاملة. وهو لا ينكر الهويات المميزة ويمنح كلاً من هذه الهويات المتميزة الحق في التعبير عن نفسها في إطار المجال الخاص.

وينبع إغراء الفصل المجتمعي، الذي دأب الفرنسيون على مناقشته لعقد من الزمان على الأقل، من الرغبة في تحويل الفشل في تحقيق المساواة الحقيقية إلى شيء إيجابي. فهو يعرض التكامل على نحو تلقائي في إطار الحيز المتمايز للجماعات المتعددة ـ وهو نوع من السجن داخل أسوار الحضارة كما يرى سِـن.

بيد أننا لا نستطيع أن نلبس الفشل لباس النجاح. فما دامت المناطق الحضرية محرومة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، فلن يخدم هذا النوع من الفصل الاجتماعي إلا كقناع تتلخص مهمته في حجب انتهاك مبدأ المساواة. ومن ثم يتم قياس المجموعات الاجتماعية من حيث اختلافاتها «العرقية» أو «العنصرية».

ونتيجة لإهمال الظروف الاجتماعية للنموذج الفرنسي على هذا النحو الواضح، فقد تحول ذلك النموذج الآن إلى تناقض حي مع مبدأه الأساسي: ألا وهو المساواة. ولإصلاح هذا التناقض، يتعين على المذهب الجمهوري الفرنسي، مثله في ذلك كمثل مذهب التعددية الثقافية البريطاني، أن يتناقض مع نفسه حتى يتمكن من تحقيق ذاته. ويتعين على الفرنسيين أن يدركوا أن فكرة المساواة قبل القانون تشكل مبدأً أساسياً، إلا أنه مبدأ ضعيف؛ فهو في حاجة إلى التكميل برؤية أكثر صرامة لكيفية تحقيق غاية المساواة.

وهذه الرؤية لابد أن تجعل الجهود الجمهورية متناسبة مع أهمية أو حجم الإعاقة التي يعانيها الناس من أجل تحريرهم من العبء الذي تفرضه عليهم ظروفهم الأساسية. والمساواة الحقيقية في المجال العام، التي تتفاوت تبعاً لقيم وتاريخ كل دولة، تستلزم مستوى أدنى من تقبل تاريخ وقيم كل دولة بعينها. ويقول سِـن إن ما نقبله هنا لابد أن نفكر فيه باعتباره هوية وطنية. إلا أن هذه الهوية لابد أن تكون منفتحة. فهي الهوية التي نتقاسمها بأن نعيش معاً في ظل كل العوامل المشتركة بيننا، أياً كانت الفوارق بين هوياتنا المتعددة.

كان الروائي البريطاني العظيم جوزيف كونراد، الذي ولِد باسم جوزيف تيودور كونراد كورزينيوسكي لأبوين بولنديين في أوكرانيا التي كانت آنذاك تحت حكم الروس، يقول «إن الكلمات هي العدو الأكبر للحقيقة». لا ينبغي لجاذبية «الهوية الوطنية» أن تعمل كستار جمعي يتحول خلفه مبدأ الدمج إلى جسد بلا روح يتعايش مع مذهب الفصل المجتمعي الذي لم يبرز الآن إلا كنتيجة لإخفاق «الهوية الوطنية».

* جون-بول فيتوسي ، أستاذ علوم الاقتصاد لدى معهد باريس للدراسات السياسية، ورئيس مركز الدراسات الاقتصادية التابع لمعهد باريس للدراسات السياسية بباريس (OFCE).

«بروجيكت سنديكيت»/«المرصد الفرنسي للأحوال الاقتصادية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top