شارع الرشيد في بغداد... إمبراطورية مهدّدة بالزوال

نشر في 01-11-2007 | 00:00
آخر تحديث 01-11-2007 | 00:00

نقلت وكالات الانباء قبل أيام ان شارع الرشيد، أقدم شوارع بغداد، بات يفقد معالمه التاريخية تدريجيا وسط مخاوف روّاده من ان يصبح اثراً بعد عين نتيجة الإهمال. تحولت المتاجر التي اشتهرت ببيع الالبسة في هذا الشارع منذ عشرات السنين إلى مخازن لبيع العدة والمستلزمات الصناعية والادوات التي يحتاج اليها عمال البناء في موازاة انتشار محال بيع مولدات الكهرباء.

كذلك، تحولت صالات السينما التي يعود تاريخها الى اكثر من 70 عاما وابرزها «الزوراء» و»الشعب» و«الرويال» إلى عنابر كبيرة واصبحت واجهاتها محالا للعدة. على جانبي الشارع كانت تنتشر اشهر المقاهي البغدادية التي يرتادها الفنانون والكتاب ورجال القانون ومنها مقهى «البرلمان» ومقهى «البرازيلية»، إلا أنها باتت ايضا محالا لبيع الأدوات الكهربائية والخردوات.

يشبه شارع الرشيد في بغداد برمزيته الشوارع العريقة في العالم، مثل «الشانزليزيه» في باريس وشارع «محمد علي» في القاهرة، والحمرا في بيروت. نسمع عنه في الاخبار ونتخيله. لو اردنا زيارة فرنسا او مصر او العراق فإن اول ما نفكر فيه هو زيارة تلك الشوارع التي اصبحت مشهورة بحكاياتها في الكتب وعلى شاشات التلفزيون وفي كتابات الادباء والرحالة. شوارع لها شواهدها ورمزيتها في حياتنا اليومية وفي الثقافة العالمية. يصعد بريقها ويخفت بحسب الظروف والتحولات التي تطرأ عليها. الواقع ان الحرب والتدهور الاقتصادي من أهم الأسباب التي تأخذ الشوارع الراقية نحو «الاحتضار».

ذاكرة

لو عدنا الى الكتب للبحث عن ذاكرة شارع الرشيد نقرأ انه تأسس وسط أنقاض مدينة تركية قديمة هيمنت ملامحها عليه بعد افتتاحه وتركت بصمتها حتى انقرضت هي الأخرى في ما بعد. أطلق العامة على شارع الرشيد منذ افتتاحه عام 1916 إسم «خليل باشا جادة سي» وافتتحه آمر اللواء محمد بك معن الذي شغل رتبة قومنداني نيابة عن والي بغداد خليل باشا. كان الشارع حلماً يراود مخيلة مدحت باشا لربط باب السلطان بـ«الباب الأعظم» وسط رصافة بغداد. في عهد ولاية خليل باشا تحقق ذلك الحلم وافتتحت أول جادة في بغداد بعرض 16 متراً أو 12 متراً في روايات أخرى. أعدّ المهندس المعماري الانكليزي جي- ام ويلسون مخططاً لتنظيم بغداد ولعلّه مَنْ اقترح نمط الشارع الرواقي الذي ينتشر في الهند بسبب تشابه الظروف المناخية. لعلّ المعماري احسان فتحي افضل من درس مزايا هذا الشارع حين بيّن «الوحدة» الواضحة له والمعيار الإنساني الذي يتمتع به على اساس انه يساعد على اعطاء الشعور بالالفة والانتماء: عرضه 12 متراً وارتفاعه 14 متراً، هكذا يساعد على بقاء المعيار الانساني للمارة فيه. أمّا طول الرواق المخصص للسابلة فيعطي حماية جيدة من الشمس والمطر ويفصله حسياً وبصرياً عن ضوضاء الشارع، كما له محدودية طولية قررتها اسباب تخطيطية تاريخية، بمعنى ان له بداية ونهاية وله طرفان مستقطبان. يتميز الشارع بالشرفات الحديدية المزخرفة وبالتفاصيل الزخرفية الدقيقة التي تعطيه اثارة حسية وجمالية مستمرة. من منطلق مبدأ «الملمس» الجمالي والمعماري فإن شارع الرشيد كان بدأ «ناعما» في تكوينه العام و«خشنا» في تفاصيله الزخرفية.

غداة دخول الانكليز بغداد كان مليئاً بالحفر. بدأ الانكليز اول عهدهم بتعبيد شارع الرشيد واطلقوا عليه تسمية «الشارع الجديد» ليغدو المنتزه الامثل لأهالي بغداد وهم يراقبون فتيات الهوى في العربات المكشوفة وهن حاسرات الرؤوس. كانت الحكومة اصدرت امراً يقضي بأن تلبس فتيات الهوى ثيابا وعباءات وجوارب بلون ازرق غامق تمييزاً لهن عن باقي النساء.

قرية أوروبية

هذه بعض المعالم من شارع الرشيد الذي يصفه الرحالة امين الريحاني في مطلع العقد الثالث من القرن الماضي بقوله: «انه لشبيه بشارع في قرية اوروبية، والبلدة والمحلات الواقعة شرقا منه، وإن كانت لا تتجاوز بمجملها المائة سنة الا انها جد قديمة بما في ظاهرها ولا يخلو بعض داخلها من ضيق الجادات واعوجاجها والتهدم فيها». سمّاه اهل بغداد «الجادة العمومية» ثم سُمّي «الشارع العام» الى ان اطلق عليه اسم شارع الرشيد تيمنا باسم الخليفة العباسي هارون الرشيد. يبدأ من باب المعظم وينتهي بباب البصلية (الباب الشرقي) ويتصل بشارع ابي نواس. يحتوي على عدد من المساجد الرائعة الجمال والكثير من الاسواق، بدءا بسوق السرايا، يمتد جزء منه ليصل الى سوق المتنبي المعروف بخصوصيته والمشهور باقامة المزاد العلني لبيع الكتب النادرة في ايام العطل. اما سوق السرايا فتعيد إلى الكتاب مجده باعتبار ان مكتبات السوق هي المكان الوحيد لتصريف الراكد من المنشورات التي عجزت دور النشر عن بيعها. يصف جمال حيدر المكتبات بأنها سوق متراصة وتشتمل على الكتب المختلفة. يرتادها الهواة الذين يبحثون في واجهاتها عن كل ما هو نادر وفيها تنكشف حقيقة الاسعار القابلة دوما للتفاوض بين البائع والمشتري واغلفة المجلات التي تكشف سياسة السلطات المتغيرة.

يشكل شارع الرشيد امبراطورية صغيرة، غنّت ام كلثوم في اثنين من ثلاثة فنادق فيه، هما «الهلال» و«الجواهري». يمكن تأمل مسار العراق السياسي والثقافي والاجتماعي من خلال الشارع نفسه، فقد شهد ولادة اول دار لعرض افلام السينما وكانت مقاهيه مراكز لتجمّع المثقفين. في العام التالي لثورة تموز 1958 شهد الشارع محاولة اغتيال فاشلة تعرض لها زعيمها عبد الكريم قاسم، بين محلتي «رأس القرية» و«عقد النصارى»، نفذها عدد من البعثيين كان بينهم صدام حسين وعبد الوهاب الغريري الذي يؤكد كثيرون انه سقط برصاص صاحبه صدام حسين بسبب خوفه وارتباكه، الامر الذي حاول صدام حسين التغطية والتمويه عليه بنصب تمثال له وتسمية الموقع باسمه «ساحة الغريري» والتي اعاد العراقيون تسميتها باسم «ساحة عبد الكريم قاسم» بعد ازاحة تمثال الغريري منها، اثر سقوط نظام صدام حسين في التاسع من نيسان 2003. طوال سنوات الخمسينات والستينات اللاحقة شهد الشارع العديد من التظاهرات المنددة والرافضة والمحتجة التي تقاسمتها القوى السياسية في الشارع العراقي.

يعتبر شارع الرشيد رمز التحول لمدينة بغداد التي تعيش تحت وطأة العنف والمجهول.

back to top