في عمران الكذب 4 -4

نشر في 05-03-2008
آخر تحديث 05-03-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي

معمار الكذب ينسحب أيضاً على ما يمكن تسميته الكتابة أو الثقافة التجميع، مثل تجميع أجهزة الكمبيوتر وتجميع السيارات، فكثير من الكتب المهمة التي تصدر في مصر، هي كتب مؤلفة في باريس ولندن ونيويورك ولكنها (تجمع) في القاهرة أو إحدى العواصم العربية الأخرى، وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من المقالات والتحليلات التي تصدر في الصحف والمجلات العربية، فهي أصلاً مكتوبة في «الليموند» أو «النيويورك ريفيو أوف بوكس» أو في «غارديان ويكلي» أو في «نيوستيتسمان» أو «نيشن» الأميركية، فيقومون بترجمتها إلى اللغة العربية ولا يعرضون أسماء مؤلفيها، إنما تعرض بأسماء مؤلفين محليين! وإذا ما كشفت زيفهم صراحة فإنهم لا يناقشونك بمؤلفاتهم التجميع التي تشبه الأدوية التركيب، بل يتهمونك بالعمالة والتخوين لأنك تريد هدم الثقة الوطنية... فأن تبوح مثلاً، بأن بعضاً مما ألفه محمد عبدالوهاب كان مقتبساً (من دون تصرف) من موسيقى اليدش اليهودية في أوروربا الوسطى، فإن ثائرة ستثور عليك: «ألم تجد سوى اليهود لكي تنسب إليهم روائع عظمائنا؟ اليهود يريدون الاستيلاء على كل ما لدينا، من الأهرامات إلى طعامنا، فلماذا تقول هذا؟». ربما يكون اليهود كاذبين في الأهرامات والطعام وفي أشياء أخرى، لكنهم ليسوا كاذبين في ما يخص بعض ألحان عبدالوهاب، ولكن بما أننا لا نستطيع، بل لا نمتلك المؤسسات المرجعية التي تفرق بين الأصل والزيف، فإننا إما أن نأخذ الأمر كصدق كله أو ككذب كله دونما قدرة على الفرز.

ولنأخذ مثلا آخر، وهو الموضوع الذي يطرحه كتاب (عبقرية المكان) لجمال حمدان (والذي يجل المصريون حمدان بناء عليه)، فهو موضوع مطروح منذ العصور الرومانية القديمة في صورة (Genius Loci)، وما كتبه الكتاب الألمان والإنكليز في ألمانيا الرومانسية وفي العصر الفكتوري عن عبقرية المكان هذه، كان من العوامل التي أوصلت إلى الشيفونية الألمانية. ولكن أن تتجرأ وتذكر ما سبق، فإنك ستجد من يتهمك بأنك تشوه صورة بطل قومي. رغم أن مصداقية وأمانة البحث العلمي كانتا تفرضان على جمال حمدان أن يذكر، ولو على عجالة، من سبقوه إلى المصطلح الذي عنون به كتابه، وأن يعترف بأنه ليس جديداً ولا اختراعه الشخصي، وإن كان جمال قد أغفل عن هذه الملاحظة، فأنا أرى واجباً على المثقفين المصريين التنويه على ذلك. الأمر لا علاقة له بتشويه صورة أحد، هو أمر تتطلبه الأمانة العلمية.

المشكلة الحقيقية في عمران الكذب هو غياب المرجعية المعرفية التي تكشف الزيف والتي تحميها مؤسسات تحكم وتحكّم (من التحكيم) شرعية المعرفة وأصالتها التي غالبا ما يحكم هذا وذاك فيها، نظام صارم لفرز الصدق من الزيف والحقيقة من الكذب.

معمار الواجهة وكذلك الدهاليز قد ينجح في سياقه المحلي، لكن عند وضعه على المحك المحلي واختباره حسب الإجراءات المتعارف عليها، ينكشف ويبدو كما أصله، باهتاً وغير ذي قيمة. فهل لنا أن نعيد النظر في عمران الكذب ومؤسساته؟ أعتقد أنها ضرورة بقاء.

دراسة علاقة العمران الخاص والعام بتفشي ظاهرة الكذب من زاوية اجتماعية سياسية، هي ضرورة قصوى لأي مجتمع، خصوصاً إذا ما أخذ الكذب لنفسه من المجتمع عمراناً وأعاد إنتاج نفسه محليا لدرجة يصبح فيها وكأنه وجه لكل المجتمع. دراسة هذه الظاهرة ضرورة لبقاء أي مجتمع، ومحاصرة الكذب وثقافة التجميع والتركيب هي مسألة لا تقل أهمية عن أي ضرورة وطنية أخرى.

وصول ظاهرة التجميع الفكري إلى جامعاتنا، وكذلك الكتابة التركيب وثقافة الواجهة، وتقديمها على أنها من صميم إنتاج من (فبركوها)، سوف يؤدي في النهاية إلى سيطرة عمران الكذب وانهيار ما تبقى من عمران الصدق والحقيقة.

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية-IISS

back to top