لا مجال للتنفس

نشر في 26-10-2007
آخر تحديث 26-10-2007 | 00:00
 رزان زيتونة

الهواء في أمكنة أخرى من هذا العالم أكثر وفرة، وهو في مكاننا هذا، شحيح ونادر، وإن كان الحب بلا أمل أسمى أنواع الغرام فإن العمل بلا أمل لا يقل عنه سمواً... وإحباطاً وتعباً.

عنونت منظمة هيومان رايتس ووتش تقريرها الجديد بشأن «القمع الحكومي للنشاط بمجال حقوق الإنسان في سورية»، والعنوان مخيف وطريف ومعبر! يختصر الدهشة ويكثف القهر، وفوق ذلك، يشف عن لون هوائنا المعكر إلى حد بعيد.

وقبل أيام من صدور التقرير، قبيل عيد الفطر بالتحديد، كنت في زيارة إلى سجن «عدرا» المدني، وفي هذا السجن يقبع بعض معتقلي الرأي والنشطاء السوريين.

عند الباب الخارجي، التقيت مصادفة زوجة البروفيسور عارف دليلة، تبادلنا العناق والقبلات، وحملتها سلاماتي إلى البروفيسور الذي لا يسمح بزيارته لغير عائلته، ومضيت في طريقي إلى داخل السجن.

يقول التقرير إن الحكومة السورية تقوم بالتضييق الشديد على حريات نشطاء حقوق الإنسان في التعبير عن آرائهم وفي التجمع على شكل جمعيات... والأسوأ أن أجهزة الأمن تعرض نشطاء حقوق الإنسان لتدقيق ومتابعة صارمة ومضايقات تتضمن حظر السفر والاعتقالات والمحاكمات.

كان السجن مكتظّاً بعائلات السجناء، تفوح داخله رائحة عيد محكوم بالسجن مدى الحياة! الجميع يبتسم سجّانون ومسجونون. في الطريق إلى غرفة الزيارة، صادفت عائلة الدكتور كمال اللبواني أثناء زيارتها إليه عبر الشبك. تبادلنا التلويح بالأكف من بعيد، ومضيت في طريقي وأنا أحدث نفسي «رب مصادفة في سجن خير من ألف ميعاد».

يعتبر التقرير أن «تداعيات الأفعال الحكومية بحق المجتمع السوري واضحة، حماية السلطات من أي انتقاد أومحاسبة، فضلاً عن جعل مجتمع حقوق الإنسان السوري ضعيفا للغاية ومعزولا بشدة».

في غرفة الزيارة المخصصة للمحامين، اجتمع النشطاء، طبيب ومحام ومترجم محكومون ما بين ثلاثة إلى اثني عشر عاما، بالإضافة إلى ناشط سياسي ينتظر صدور الحكم بحقه الشهر القادم. الجو حميمي وغير مشحون كالعادة، شكرت العيد في قلبي، الجميع يتبادل العناق والسلام والتطمينات على صحة بعضهم، ولسبب لم أفهمه، بدا الأصدقاء المعتقلون على خلافنا، بشوشين متفائلين لا يعتريهم شيء من كآبة زملائهم في الخارج.

وبعزل جمعيات حقوق الإنسان يقول التقرير، فإن الحكومة السورية لاتقتصر على التضييق على النشطاء في حقهم في التعبير عن أنفسهم أو الاجتماع بحرية، بل هي أيضا تحرم الشعب السوري من حراك مجتمع يتمكن فيه الأفراد من محاسبة الحكومة على انتهاكات حقوق الإنسان.

يسألني الصديق المعتقل أنور البني، أحد أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في سورية، عن أحوالنا في الخارج، في «الحرية» يقصد، لا شيء مهم، أجيب، وأنا أمثّل ابتسامة عريضة بينما أشيح بنظري عنه نحو النافذة المطلة على باحة السجن. فأحوالنا داخل الحرية لا تبشر بالخير، أو ربما وبالأصح، الحرية نفسها تعاني خطباً ما، وضيق تنفس مزمن.

ويوصي التقرير الحكومة السورية بوقف الاعتقال التعسفي للنشطاء ومنعهم من السفر وإيقاف ما يتعرضون إليه من مضايقات من قبيل الاحتجاز التعسفي والاستجواب وإنهاء حالة إفلات الأجهزة الأمنية من العقاب في ما يمارسونه من انتهاكات، وتبرئة النشطاء الذين حُكِم عليهم بسبب ممارسة حقهم في حرية التعبير وتكوين الجمعيات.

خلال السنة الفائتة اعتقل العديد من النشطاء وحُكِم على كثير منهم بأحكام قاسية، خلال السنة الفائتة أيضا، غادر البلد نحو خمسة عشر ناشطاً، ممن لم يطلهم منع المغادرة أو تمكنوا من الحصول على إذن سفر، بهدف العمل أو الدراسة أو طلب اللجوء. وكنت قد بدأت في إعداد قائمة بأسماء هؤلاء منذ بلغ عددهم العشرة، لم يحصل مثل ذلك خلال السنوات الست السابقة، الهواء في أمكنة أخرى من هذا العالم أكثر وفرة، وهو في مكاننا هذا، شحيح ونادر. وإن كان الحب بلا أمل أسمى أنواع الغرام، فإن العمل بلا أمل لا يقل عنه سمواً... وإحباطاً وتعباً. قد يتطلب الأمر قريباً منظمات حقوقية خاصة للدفاع عن النشطاء الحقوقيين هنا.

يشيد التقرير بشجاعة النشطاء وجماعات حقوق الإنسان في سورية وقدرتهم على العمل في ظروف بالغة الصعوبة، بينما ينعي آخرون الحركة الحقوقية السورية، وما اعتراها من ضعف وتفكك ومراوحة في المكان، وحتى من غير إغفال الأسباب الذاتية لضعف الحركة الحقوقية السورية، فإن هؤلاء يعتقدون أن الناشط «سوبر إنسان»، يستطيع العيش على أجهزة تنفس اصطناعية إلى الأبد.

يلخص التقرير أوضاع هذه الحركة باعتبار أن موقفها يبقى ضعيفا ومهتزا للغاية، فالنشطاء مستمرون في العمل بشكل غير قانوني من دون وجود هياكل تنظيمية لهم، وكثيراً ما تؤدي المصادمات الشخصية والريبة في الأشخاص من أن النشطاء الآخرين مخبرين للأجهزة الأمنية، إلى انقسام المنظمة الواحدة إلى منظمات عدة منبثقة عنها.

في نهاية الزيارة تبادلنا الوداع والتحية: وشعور بالانقباض ما برح يلازمني طوال الوقت، لم أراجع الطبيب، بل ابتسمت باسترخاء عند صدور تقرير «لا مجال للتنفس»، فها نحن ذا، مازلنا على قيد الحياة، ونحب الحرية ما استطعنا إليها سبيلا.

* كاتبة سورية

back to top