أطفال فرنسا... ورهان المستقبل

نشر في 20-06-2007
آخر تحديث 20-06-2007 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت من بين السمات المحيرة التي كثيراً ما يغفلها المحللون في فرنسا، التي انتخبت نيكولا ساركوزي رئيساً لها، والتي تستعد الآن لمنح حلفائه السياسيين تفويضاً برلمانياً قوياً، ذلك الخليط العجيب من التفاؤل الخاص والتشاؤم العام.

ولنتأمل هذه الحقيقة: تتمتع فرنسا بأعلى معدلات الخصوبة بين بلدان الاتحاد الأوروبي (أقل قليلاً من طفلين لكل أنثى)، حتى انها تسبق أيرلندا المزدهرة في المواليد. مما لا شك فيه أن هذا المعدل في حد ذاته لا يكفي للحفاظ على تعداد سكان فرنسا الحالي عند مستواه الحالي، إلا أنه أقوى كثيراً من نظيره في الدول الأوروبية المجاورة، ويكاد يعادل نظيره في الولايات المتحدة. رغم ذلك، تؤكد استطلاعات «يوروباروميتر» على نحو متكرر أن الفرنسيين هم الأكثر تشاؤماً بين جميع الأوروبيين حين يتصل الأمر بمستقبل بلدهم. كيف يمكن لأناس يتعاملون بهذا الكم من السلبية إزاء مستقبلهم المشترك كأمة أن يتحلوا بمثل هذه الثقة في بناء مستقبلهم الخاص في إطار أسرهم؟

بعد سنوات من الفشل الحكومي في تحجيم معدلات البطالة الهائلة، يُنظَر إلى الفرنسيين اليوم باعتبارهم شعباً تقاعد من المحيط السياسي حتى تتسنى له الفرصة، للتركيز على حياته وأوقات فراغه. فالمتاحف، والحدائق العامة، والنوادي من جميع الأشكال تشهد ازدهاراً واضحاً في فرنسا اليوم. ويبدو أن الجمعيات الخاصة قد بدأت حيث انتهت الأحزاب السياسية والنقابات التجارية.

ولكن إذا كان الفرنسيون قد أداروا ظهورهم إلى المحيط العام، فكيف لنا أن نفسر نسبة المشاركة التي لم يسبق لها مثيل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حين نزل أكثر من 85 % من الجماهير الانتخابية للإدلاء بأصواتهم في كلتا الجولتين؟ وكيف نفسر الحماسة التي أثارتها الحملة الانتخابية وساركوزي ذاته، بما في ذلك الكم الهائل الذي تلقاه من التثبيت في الانتخابات البرلمانية؟

يبدو أن الحماسة السياسية لم تتلاش في بلد روسو ودانتون. ولابد أن الحقيقة تكمن في مكان آخر. إن الفرنسيين لم يفقدوا الأمل في السياسة؛ بل إنهم ببساطة ينتظرون قدوم زعيم أصيل.

بل إننا نستطيع أن نقول إن الفرنسيين لن يصدقوا أبداً أن الدولة تفتقر إلى القوة، سواء في ظل العولمة أو غير العولمة. فما زال الفرنسيون ينتظرون أموراً عظيمة من حكومتهم مقارنة بما ينتظرونه من أوروبا المتكاملة أو العالم الذي لا تحده حدود.

أجل، إن الفرنسيين عاشقون مخلصون لدولة الرفاهية (وهم ليسوا وحدهم في هذا). ويبدو أن ساركوزي يدرك هذه الحقيقة على نحو غريزي. ذلك أن أجندته السياسية تهدف إلى التحرير على المستوى المحلي بتجاوز مسألة الخمس والثلاثين ساعة عمل في الأسبوع، وإنهاء أنظمة التقاعد الخاصة المرتبطة بحرف معينة، وزيادة الحوافز الدافعة إلى العمل واكتساب الثروة. إلا أن هذه الأجندة تسعى أيضاً إلى توفير الحماية ضد الآثار المشوشة التي تخلّفها العولمة، وهو ما قد يعني أيضاً الدعم القوي للسياسة الزراعية المشتركة للاتحاد الأوروبي، والتشكك في ما يتصل بتحرير التجارة في المستقبل، والرغبة في تحسين الآليات التي تحكم اقتصاد الاتحاد الأوروبي.

ولكن انطلاقاً من اهتمامهم بمستقبل أطفالهم، يبدي الفرنسيون قدراً من الإذعان لبعض الإصلاحات الحكيمة، أعظم مما يفترض أغلب المعلقين (والساسة) بصورة عامة. ويأتي التعليم الثانوي والتعليم العالي بالقرب من رأس قائمة أولويات جدول أعمال الحكومة الجديدة. إلا أن هذا يصدق أيضاً على إجراءات تهدف إلى تسخير الدولة في الاضطلاع بالجهود الرامية إلى تشجيع رجال الأعمال ودعم الديناميكية الاقتصادية، مثل الضمانات العامة لمشاريع الإسكان والمشاريع الجديدة، وتخفيض الضرائب على الاستثمار في المشاريع الصغيرة.

إن فرنسا في حاجة ماسة أيضاً إلى مراجعة الحقائق والوقائع بشأن طبيعة تنوعها الثقافي الحالي. ولا ينبغي لأحد أن ينسى أن ساركوزي، على الرغم من لغته الخطابية أثناء الحملة الانتخابية، وافتقاره إلى الشعبية بصورة واضحة بين العديد من المهاجرين، إلا أنه ذاته من بين أبناء المهاجرين الذين ينحازون إلى سياسات العمل الإيجابي. ولقد اتضح ذلك بجلاء منذ البداية، بعد ترشيح امرأة من أصل شمال أفريقي وزيرة للعدل.

يدرك أغلب الفرنسيين أن الحيز العام في فرنسا ـ أسواق العمالة، وأماكن العمل، والإسكان، والمؤسسات التعليمية ـ يعاني من رذيلة التمييز. والحقيقة أن الضواحي الفقيرة سيئة السمعة، تشكل إهانة بالغة لفكرة «الإخاء». وتتلخص المهمة الكبرى التي تنتظر ساركوزي الآن في فتح جميع الأبواب، من الداخل، أمام نسل الآخرين، الذين هاجروا إلى فرنسا، مثلما فعل والده ذات يوم.

لا ينبغي لنا أن نتصور أبداً أن ساركوزي قد انتخب لكي يعمل على تهيئة فرنسا للتعامل مع العولمة المراوغة. ذلك أن المهمة الأعظم والأشد إلحاحاً وصعوبة في انتظاره، تتلخص في ضرورة التوفيق بين المصلحة الفرنسية العامة وبين الأهواء الخاصة.

 

* جون-بول فيتوسي ، أستاذ علوم الاقتصاد لدى معهد باريس للدراسات السياسية، ورئيس مركز الدراسات الاقتصادية التابع لمعهد باريس للدراسات السياسية بباريس (OFCE).

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top