حول الائتلاف والاختلاف
هناك في ما يخصّ استخدام مفهوميّ الائتلاف والاختلاف معاً أزمة تتوالد باستمرار في جميع المجتمعات العربية، والمجتمعات السياسية منها خصوصاً، لا نعرف كيف نختلف، ولا كيف نأتلف، ولا كيف نختلف ونأتلف في الوقت نفسه، وتلك مشكلة كبرى معرقلة دائمة لعملية التغيير والتقدم.استُهلك «كوجيتو» ديكارت كثيراً منذ قال «أنا أفكر، إذاً أنا موجود»، وتعدّدت الاشتقاقات منه حتى ملّها كثيرون، لذلك ربّما، لا بأس بإضافة فذلكة جديدة «قديمة هي أيضاً» تقول « أنا أختلف، إذاً أنا موجود» وثانية تتّحد معها «أنا أأتلف، إذاً أنا موجود». الأولى قالها محام أميركي بطريقة أخرى «أنا أفكّر، إذاً أنا مختلف»، ولا أذكر من الذي قال الثانية أو ما يشابهها.أمّا في ما يخصّ استخدام مفهوميّ الائتلاف والاختلاف معاً، فلتسامحنا الباحثة التونسية بوعجيلة على اقتباس عنوان أطروحتها حول السائد والمهمّش في الفكر الإسلامي القديم، والباحث والحقوقي العراقي عبد الحسين شعبان في ما يخصّ مقالته حول المقاومة العربية، وربما آخرون. هنا نحن ندخل الموضوع من باب آخر، يتعلّق بالسياسة والعمل السياسيّ.في الحقل المذكور أزمة تتوالد باستمرار، في جميع المجتمعات العربية، والمجتمعات السياسية منها خصوصاً، لا نعرف كيف نختلف، ولا كيف نأتلف، ولا كيف نختلف ونأتلف في الوقت نفسه، وتلك مشكلة كبرى معرقلة دائمة لعملية التغيير والتقدم.كذلك لا يُدرك البعض (ومنهم «ماركسيون»!)، جدل الاتّصال والانفصال، والوحدة والتنوع، والتكتيك والاستراتيجية، حين يكونون غرقى في غمرة الإيديولوجيا، التي تتجلّى عندئذ لتزييف الانتهازية.وإلاّ فما الانتهازية، ما لم تكن نمطاً في الطروح والممارسات يهدف إلى اجتذاب التأييد «الجماهيري» بأيّ ثمن، وهجران المبادئ العملية والموضوعية، وتحويل الأنظار عن الهدف الرئيس في مرحلة معيّنة لأسباب تتعلّق بالهوى الإيديولوجي الملتبس، مع قلق وتوتّر من احتمال التغيير إن كان سوف يقع في مدى منظور ولا يمكن تخيّل نتائجه، أو أن أصحابنا لا يثقون بمدى ملاءمته للمعايير التي يلتصقون بها ويعيشون من خلالها، أو لعلّه كلّ هذا مع خشية تضحيات لا قِبل لهم بها من أنظمة يعرفونها وذاقوا ويلاتها طوال حياتهم، وما يرتبط بذلك من مزيد. المقصود هنا خصوصاً جماعات تشعر بالدفء على هامش السلطة وبالبرد على هامش المعارضة. وهي ذات حساسية معينة أساساً من كلمة المعارضة، ولا نعني الشركاء ولو كانوا مختلفين. المثال الأكبر على الأمر يتعلّق بمسألة الديموقراطية، وتداخلها أو اشتباكها مع المفاهيم (أو الشعارات) الأخرى من مثل الوطنية والقومية والاشتراكية، والتطبيق المباشر هو في مدى مقاربة مسألة الانتقال من حالة الاستبداد إلى النسق الوطني الديموقراطي من جهة، ومسائل أخرى من نوع الاحتلال ومقاومة المشروع الأميركي الغربي للهيمنة على المنطقة، إلى قضية الدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية ومصالحها المعيشية والاجتماعية. هنا تنعكس بوضوح مسألة الاستجابة الفكرية والسياسية والعملية لكلٍّ من الداخل وحاجاته وأحواله وتغييرها، والخارج ومقاومة طغيانه وطوفانه على الهوية والمصالح والكرامة الوطنية أو القومية.هذا من جهة الرأي، أما من جهة التحالفات، فيرغب البعض ويحقّق نفسه من خلال «النضال» والثورة المستمرة وتعقيم الهواء السياسي باستمرار والهجوم «اللينينيّ» الكاسح من أجل صَبغ الآخرين بصبغة موحدة أو هجرهم والاعتصام بأبراج منعزلة، يراها الآخرون أو بعضهم من بعيد جزءاً من «القلعة» الحاكمة المهيمنة، ولو لم يرَ ذلك أصحاب هذا الرأي أو بعضهم، أو هم لا يستطيعون.فكيف يقوم الائتلاف إذاً من دون اختلاف؟ وكيف يقوم من دون اتفاق أيضاً؟يضع بعض المعارضين «في سورية مثلاً» شرطاً لازماً للائتلاف من أجل الديموقراطية أن يتمّ الالتزام باليسار في وجه اليمين، وبالأمة العربية قبل الوطن الأصغر، وبمقارعة الإمبريالية قبل الاستبداد، وبالوقوف في وجه العولمة ومنظمة التجارة العالمية ونظام القطب الواحد والليبرالية الجديدة قبل الديموقراطية نفسها، التي تبدو ضمن هذه الرؤية رغيفاً معجزاً لا ينقسم ولا يؤكل، وضمنها يكون أيضاً مطلب «الانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية» مطلباً ليبرالياً جديداً.يقوم الائتلاف أو التحالف السياسي- تعريفاً- على اتفاق بين أفراد أو جماعات سياسية على العمل معاً وبانسجام من أجل الوصول إلى هدفٍ عام معيّن، ولا يكون لمثل هذا الائتلاف من معنى إلاّ بمقدار ما يكمّل بعض قواه المكوِّنة بعضها الآخر. وبمعنى آخر، يكون لكلّ طرف ميّزاته الخاصة التي يختلف بها عن الآخرين من شركائه، مع إخلاصه للهدف المباشر للائتلاف. هنا يكون الاختلاف قوة للائتلاف، واتّساعاً أكبر في احتمالات شعبيّته، وليس هنالك عبر التاريخ ما هو أكثر جمعاً للناس من هدف الدولة الديموقراطية، التي يأخذ الائتلاف من أجلها أوضح وأشرف وأسهل الأشكال، إلاّ في بلادنا وأزماننا هذه.فلا يُمكن بالتأكيد مقاومة الهيمنة الخارجية من دون حرية الشعب، ولا النضال من أجل مطالب الطبقات الشعبية أيضاً، ولا السير حثيثاً باتجاه تحرير الأرض من الاحتلال، ولا تحقيق الممكنات من الطموحات القومية، أما الوطنية الحقة فهي التي «تكره الظلم في الوطن أكثر من كرهها له في الخارج» على قول المحامي الأميركي المذكور أعلاه نفسه. * كاتب سوري