فضـاء الخطـاب الديني

نشر في 21-04-2008
آخر تحديث 21-04-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

المسائل النظرية التي لا ينتج عنها أثر عملي في أصول الفقه لا تدخل في العلم لأنها مماحكات وتفيقه، وغاية الاستدلال الحفاظ على المصالح العامة، ويسقط الإفتاء إن لم يطابق عمل المفتي فتواه.

1 - هل الدين غاية في ذاته أم وسيلة لتحقيق رسالة العدل على الأرض وإسعاد للبشر؟ ويعني الفضاء العالم الخارجي الذي يعكسه أو الأفق الذي يرنو إليه. فالخطاب ليس مجرد قول، لفظاً ومعنى، بل هو أيضا علامة على شيء، وإشارة إلى موقف، بالرغم من أن الخطاب في اللسانيات المعاصرة في الغرب عالم مغلق، مكتف بذاته. إن الله غني عن العالمين. وليس في حاجة إلى دين بالرغم من الحديث المشهور الذي يتناقله الصوفية فيما بينهم «كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبه عرفوني». فالخلق انعكاس للخالق، وخروج عن ذاته، وتعرف عليه. وما قيمة جوهر في باطن الأرض لا يراه ولا يعرف قيمته أحد؟ ليست المعركة في الدفاع عن الدين «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، بل إن المعركة تحقيق خلافة الإنسان على الأرض، وتأدية الأمانة التي ناءت بحملها، ورفضتها السموات والأرض والجبال. الإنسان هو الأولى بالدفاع، ومصالح الأمة هي الأولى بالرعاية والاهتمام. الخطاب الديني إذن قصد يتوجه نحو العالم.

2 - هل حقائق الدين أشياء أم بواعث على الخير؟ حقائق الدين التي يحاول الخطاب الديني التعبير عنها ليست أشياء، بل هي بواعث على فعل الخير للفرد والجماعة. ليست للدين حقائق منفصلة عن الحياة، ولا هي أشياء يمكن التقرير عنها. فوجود الله مثلا ليس حقيقة خارجية في العالم كشيء أو موضوع، بل هو مبدأ عام شامل يتساوى الناس أمامه جميعا، «ليس كمثله شيء». وهو قيمة مطلقة أساس الأخلاق الشاملة، تتجاوز القيم النسبية التي تتغير بتغير الزمان والمكان. وخلق العالم ليس واقعة شيئية، بل هو التغاير عن الألوهية، الألوهية المضادة، الأنا عندما يصبح آخر من أجل الأنا المطلق الذي يضم الأنا والآخر وكما عبر عن ذلك الصوفية المسلمون وهيغل في الغرب. خلق العالم عن قصد ونية وهو امتحان البشر في أداء الرسالة وإعمار الكون «أَفَحَسِبْتُمْ أنمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ »، وهو معنى البعث أيضا. الخلق الذهاب، والبعث الإياب. الخلق البداية، والبعث النهاية. وما بينهما المصير أو التاريخ. وخلود النفس ليس واقعة مادية، انفصال النفس عن البدن بالموت ثم فناء البدن وتحلله في الأرض ورجوع النفس إلى بارئها تنتظر الحساب. بل يعني خلود النفس أن الموت ليس له الكلمة الأخيرة. إنما هي مرحلة بين مرحلتين، وجسر عبور بين بحرين. فالحياة متصلة نظراً لعشق الإنسان لها. فبعد أن يعرفها لا يتركها. بل تتعدد أشكالها، ولا يعني الحساب، الثواب والعقاب، والجنة والنار، والميزان والصراط أي وقائع مادية، بل رموز للعدل. فالعدل له الكلمة الأخيرة على الظلم، وأن العدل أصل والظلم فرع. وهو القاعدة، والظلم الاستثناء. والجنة والنار ليستا أشياء حسية مادية، بل بواعث للترغيب والترهيب، صوراً تثير الخيال، وتدفع إلى العمل الصالح. والغيب ليس شيئا ماديا محسوسا وإن كان لا يُرى، بل هو رمز للمجهول الذي يتحول إلى معلوم بالجهد الإنساني.

3 - هل الدين تاريخ مضى للرسالة والرسول والمرسل إليهم؟ قضية الخطاب الديني أنه خطاب مغترب في الزمان ينتقل عن الحاضر إلى الماضي هروبا من تعقد الحاضر وضرورة حسم خياراته إلى سهولة الماضي بعد أن تحققت خياراته على الوجه الأكمل. لذلك يغرق العاجز عن مواجهة الحاضر في التاريخ بذكر حياة الصحابة والتابعين وسيرهم الفاضلة، ونقل المتلقين من عذاب الحاضر إلى نعيم الماضي. فالعيب في هذا الزمن الرديء وليس فيهم.

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيب سوانا

والناس يتمايلون بالرؤوس إعجاباً بالأسلاف، وأسفاً على الأخلاف. فالماضي حلم جميل لن يعود بالرغم من الإكثار من ذكر رواية «لا يصلح هذه الأمة». فتحول التاريخ إلى مثال وأسطورة لا يمكن الوصول إليه. وتقدس أبطاله، وأصبحوا نماذج للسلوك البشري يعجز الوصول إليها، ويأخذ المصلون هذه الحقن المخدرة كل أسبوع في خطب الجمعة وهم يحلمون بسيرة السلف الصالح. نفوسهم سلفية. فما أسهل بعد ذلك أن يأتي أحد أفراد الجماعات الإسلامية النشيطة لضمه إليها بعد أن استعد نفسياً إلى أنه لا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وأن الإسلام أتى غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء. وهو من الغرباء.

4 - هل الخطاب الديني للمعرفة أم للتغيير، للنظر أم للعمل؟ الخطاب الديني عادة ما يكون خطاباً نظرياً يعطي علماً لمتلق أمّي يجهل دينه. ويقوم العالم الجليل بإعطائه ما فقد، وبتعليمه ما جهل. وتحدث مباريات في القنوات الفضائية في التعالم بالدين، في دقيقاته وتفصيلاته، قص اللحية والشارب وإلى أي حد؟ وتترك المسائل الكبرى ونوازل الأمة وما تعم به البلوى إلا فيما ندر. فمازالت منابر الإعلام تحت سيطرة الدولة. وتعم مدراس تحفيظ القرآن ومسابقاته، وتكثر دروس التفسير والفقه، وتكرار ما قاله القدماء في موسوعاتهم الكبرى التي تعبر عن علوم عصرهم في اللغة والتاريخ والفقه والكلام والتصوف والأصول، ولا تعبر عن هموم العصر. مع أن الخطاب الديني هو اقتضاء فعل «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»، «يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل». «الكوجيتو» الإسلامي ليس هو «الكوجيتو» النظري عند ديكارت»أنا أفكر فأنا إذن موجود» بل «كوجيتو» عملي، «أنا أعمل فأنا إذن موجود» كما هي الحال عند الفيلسوف الألماني جوهان فشته وفي شعر المقاومة الفلسطينية «أنا أقاوم فأنا إذن موجود» رداً على بيغين «أنا أحارب فأنا إذن موجود».

وقد حذر القرآن من القول دون العمل «يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (*) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ». وفي الحديث عندما سد أعرابي أذنيه عن سماع الكثير من الرسول، يكفيه القليل من القول والكثير من العمل ونهره عمر قال الرسول «أفلح إن صدق». وعادت الحركة الإصلاحية للتذكير بذلك كما قال محمد عبده «ما أكثر القول وأقل العمل!».

الخطاب الديني أمر وليس قراءة كما يردد أمر «خذ القطار الساعة الثانية». ويأتي القطار الساعة الثانية ولا يأخذه ويظل يردد القول. لذلك جعل الصوفية الصمت أبلغ من الكلام، والرياضة والمجاهدة طريق المعرفة. فالعمل هو الأصل، والنظر هو الفرع. العمل بداية والمعرفة نهاية. وكان الرسول «يتأول» القرآن بقيامه الليل، وليس باستعمال مناهج التأويل ونظرياته. والعازفون على الآلات الموسيقية يسمون المؤولون Les Interprètes. وفي أصول الفقه المسائل النظرية التي لا ينتج عنها أثر عملي لا تدخل في العلم لأنها مماحكات وتفيقه، وغاية الاستدلال الحفاظ على المصالح العامة. ويسقط الإفتاء إن لم يطابق عمل المفتي فتواه، ودماء الشهداء مثل مداد العلماء.

والفدائي وحده يكتب الشعر 

               وكل الذي كتبنا هراء

* كاتب ومفكر مصري

back to top