انتهى الحفل وانفض السامر

نشر في 24-03-2008
آخر تحديث 24-03-2008 | 00:00
انهيار أسعار الأصول هو السبب وراء الركود المحتمل في الولايات المتحدة. أولاً، سوف يضطر المستهلكون، في مواجهة القيود الأكثر إحكاماً على الائتمان وهبوط قيمة المساكن، إلى تخفيض معدلات إنفاقهم، مما سيؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد الأميركي، ولسوف تتأثر الدول كلها بهذا عن طريق التجارة العالمية. ثانياً، مع خسارة البنوك نحو 300 مليار دولار وأكثر من صافي رؤوس أموالها، فلسوف تضطر إلى تخفيض معدلات الإقراض، الأمر الذي سيعوق الطلب على الاستثمار.
 بروجيكت سنديكيت مع ترنُـح الولايات المتحدة نحو الكساد، انتهت موجة الازدهار الاقتصادي العالمية. والحقيقة أن موجة الازدهار هذه كانت طويلة وثابتة إلى حد غير عادي، حيث بلغ متوسط النمو %5 تقريباً طيلة أربعة أعوام- وهي فترة من النشاط الاقتصادي المستمر التي لم يشهد لها العالم نظيراً منذ العام 1970.

تتلخص أوضح الإشارات الدالة على انتهاء موجة الازدهار في تقدير صندوق النقد الدولي للنمو في الولايات المتحدة في العام 2008 بنحو %1.5 فقط. قد لا يدل هذا التقدير على كساد، إلا أن توقعات الصندوق الإيجابية نسبياً تعكس توقف النمو منذ العام 2007، وتؤكد أقل القليل من الإسهامات أثناء العام 2008. وهذا في الواقع يتفق مع نمو بنسبة صفر طيلة ثلاثة أرباع متعاقبة من العالم 2008.

يزعم العديد من المراقبين أن الكساد في الولايات المتحدة لن يستمر في التأثير على العالم لأن الصين الآن تؤدي الدور الذي كانت تؤديه أميركا كمحرك للاقتصاد العالمي. وهذا تحليل خاطئ. فرغم النمو السريع الذي تحققه الصين، فإن قوتها الاقتصادية ما زالت ضئيلة. فبينما تساهم الولايات المتحدة بنحو %28 من الناتج العالمي الإجمالي، لا تساهم الصين إلا بخمسة في المائة فقط. بل إن آسيا بالكامل، من تركيا إلى الصين، تساهم بنحو %24 فقط من الناتج العالمي الإجمالي، أي أقل من الولايات المتحدة بمفردها.

عند مرحلة ما في المستقبل، قد لا يصاب العالم كله بالعدوى إذا ألمت بالولايات المتحدة نكبة ما، إلا أن هذا بعيد كل البعد عن الواقع الآن. إذ إن %21 من صادرات الصين و%23 من صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الدول غير الأعضاء تذهب إلى الولايات المتحدة. وهذا يعني أن العالم لا يملك إلا أن يسقط بسقوط الولايات المتحدة.

تؤكد أحدث دراسات المسح، التي أجرتها مؤسسة «وورلد إيكونوميك سيرفاي» World Economic Survey في تسعين دولة، هذه الحقيقة. فقد سارت تقديرات الموقف الاقتصادي الحالي والتوقعات بالنسبة للأشهر الستة المقبلة من سيىء إلى أسوأ في كل مكان. وفي كل من أوروبا الغربية والشرقية، هبط المؤشر طبقاً للمؤسسة إلى ما دون مستوى الهبوط في آسيا أو أميركا اللاتينية. والحقيقة أن الهبوط في هذا المؤشر أثناء الربعين الأخيرين كان هو الأكثر حدة منذ عام 2001، حين انفجرت فقاعة سوق الأوراق المالية. وفي الولايات المتحدة أصبح المؤشر الآن أدنى من المستوى الذي بلغه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما هبط مؤشر «ميتشيغين» لثقة المستهلك بالقدر نفسه.

ظلت الولايات المتحدة لأعوام عديدة تعيش بنمط يتجاوز مواردها: حيث اقتربت معدلات الادخار بين الأسر الأميركية من الصفر، واعتمد الاستثمار في تمويله بالكامل على الأرصدة الأجنبية. كما استمر عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة، الذي بات الآن يطابق صافي الواردات من رأس المال، في النمو بثبات حتى بلغ 811 مليار دولار أميركي في عام 2006، أي نحو %6 من الناتج المحلي الإجمالي- وهو العجز الأضخم على الإطلاق منذ الأزمة العظمى. تمكنت الولايات المتحدة عاماً بعد عام من بيع أصولها في الخارج والاستمتاع بحياة الوفرة في الداخل. إلا أن دوام الحال من المحال، بعد أن التقط العالم العدوى.

فقد بدأت البنوك في كل مكان تدرك بعد عناء لماذا تحول الدين الذي مولت به الولايات المتحدة ازدهارها الاستهلاكي إلى دين شبه معدوم. أما السندات المدعومة بالرهن العقاري، والتي نجحت بنوك الولايات المتحدة في بيعها للعالم، فهي لا تقارن بالأصول الأوروبية التي تحمل أسماءً مشابهة.

في أوروبا، وفي ألمانيا بصورة خاصة، تعتبر السندات المدعمة بالرهن العقاري مأمونة تماماً، لأن البنوك عادة لا تمول أكثر من %60 من قيمة المسكن. أما في الولايات المتحدة فإن هذه السندات تشبه تذاكر اليانصيب إلى حد كبير. إذ إن البنوك في الولايات المتحدة تمول ما يصل إلى %100 من قيمة المسكن، وأكثر من هذا في بعض الأحيان، بل إن سوق الرهن العقاري الثانوي تتضمن قروضاً لأشخاص من دون وظيفة أو دخل. ربما لم تدرك العديد من البنوك الأوروبية مثل هذه الحقائق، إلا أنها ما زالت متحفظة في الكشف عن مثل هذه الاستثمارات المثيرة للريبة في كشوف ميزانياتها. وبدلاً من ذلك، فقد عملت على توجيهها نحو قنوات تتخذ من البلدان ذات الضرائب المنخفضة مقراً لها.

بدأت هذه القنوات الآن تتكبد خسائر هائلة، وبات من الضروري تغطية هذه الخسائر بواسطة البنوك الأصلية، التي أشرف بعضها على الإفلاس. ولسوف يشهد هذا الربيع الحذف الواجب للعديد من البنود في الميزانيات السنوية، إلا أن الحقيقة الكاملة لن تُـعرَف قبل نشر دفاتر ميزانية عام 2008 في ربيع عام 2009.

مع خسارة الأصول الأميركية لجاذبيتها المعهودة هبطت أسعارها. وكان ذلك يعني إما الهبوط في أسعار الأصول المحددة بالدولار، أو سعر الدولار المحدد بأسعار عملات أخرى. وطبقاً للتعديل وفقاً للتضخم فقد بلغ الدولار الآن أدنى مستوياته أمام اليورو، تماماً كما بلغ أدنى مستوياته أمام المارك الألماني في عام 1992، حين أسفر توحيد الألمانيتين عن انهيار نظام العملة الأوروبي.

فضلاً عن ذلك، تشهد أسعار المساكن في الولايات المتحدة هبوطاً سريعاً، وبنسبة بلغت %10 سنوياً في بعض المناطق. وصاحب هبوط أسعار المساكن انخفاض قيمة السندات المدعومة بالرهن العقاري. أما أسعار سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة فهي الوحيدة التي ظلت مستقرة نسبياً. إلا أنها مسألة وقت قبل أن تسقط هي أيضاً. فمازال معدل الربحية إلى السعر لمؤشر «ستاندارد آند بورز» في الولايات المتحدة أعلى من متوسطه على الأمد الطويل- 26.84 في عام 2007، مقارنة بمتوسطه على الأمد البعيد منذ عام 1881، الذي يبلغ 16.31.

إن انهيار أسعار الأصول هو السبب وراء الركود المحتمل. أولاً، سوف يضطر المستهلكون، في مواجهة القيود الأكثر إحكاماً على الائتمان وهبوط قيمة المساكن، إلى تخفيض معدلات إنفاقهم، مما سيؤدي إلى تباطؤ اقتصاد الولايات المتحدة، ولسوف تتأثر الدول كلها بهذا عن طريق التجارة العالمية. ثانياً، مع خسارة البنوك لمقادير ضخمة من صافي رؤوس أموالها- بلغت التقديرات الحالية 300 مليار وأكثر- فلسوف تضطر، نظراً لحاجتها إلى الحفاظ على أدنى معدل للدين مقابل حقوق الملكية، إلى تخفيض معدلات الإقراض، الأمر الذي سيعوق الطلب على الاستثمار.

حاول مجلس الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي) منع الركود عن طريق تخفيض أسعار الفائدة، إلا أنه لا يستطيع أن يمد البنوك برأسمال صافٍ جديد لمنع أزمة الائتمان. أما ما يبعث على التفاؤل فهو التخفيض الذي بلغ 150 مليار دولار للضرائب، والذي صدق عليه الكونغرس مؤخراً. وهو تخفيض ضخم بكل المقاييس، إذ يعادل %1 من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة. ولكن هل يكفي هذا لتعويض مالكي المساكن عن خسائرهم الناتجة عن هبوط أسعار المساكن، ومنع الركود الوشيك؟ ما زال علينا أن ننتظر حتى يتبين لنا هذا. ولكن أياً كان ما سيحدث فإن الحفل قد انتهى وانفض السامر.

* هانز فيرنر سن | Hans-Werner Sinn ، أستاذ علوم الاقتصاد والتمويل بجامعة ميونيخ، ورئيس معهد Ifo.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top