الأبنودي يتذكّر ويروي حكايات البدايات 18: طبعنا الأرض والعيال من دون إذن فغضب وزير الإعلام وكاد يصادره

نشر في 03-10-2007 | 00:00
آخر تحديث 03-10-2007 | 00:00

هذه الحلقات ليست ثمرة حوار ممتد عبر عدة جلسات مع صديقي الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، بل ثمرة حوارات طويلة، معظمها عفوي، كان خلالها «يبوح» وكنت «أحفظ». حوارات عفوية تطرق فيها إلى تفاصيل كثيرة ورسم معظم الملامح الأساسية في لوحة حياته فلما جاء وقت الحوارات المقصودة لم يكن علينا أن نبدأ البناء من أوله بل أن نستكمل بعض التفاصيل أو نضع لمسة هنا ولمسة هناك. ولا تحسبوها مهمة سهلة، إذ استدعى الأمر جلسات عديدة وساعات طويلة اقتنصتها من جدول الأبنودي المزدحم بين سفر وسفر، من شاطئ الخليج العربي إلى تونس ومن احتفالية فنية في قرطاج إلى مولد «سيدي عبد الرحيم» الشعبي في قنا، حتى أمكن في النهاية أن أجمع هذه الباقة من «حكايات البدايات» الأبنودية.

في البداية لم يبد الأبنودي متحمساً لموضوع الحوارات. قال: لم لا نحدد موضوعا أهم من «البدايات» للحوار حوله؟ قلت: وهل هناك أهم من البدايات؟ إن حياتك عبارة عن سلسلة متواصلة من البدايات، كأنك تولد كل يوم مرة أخرى، أول يوم في الحياة، أول يوم علم، أول يوم عمل، أول حب، أول وظيفة، أول قصيدة، أول أغنية، أول نجاح، أول إخفاق، أول ديوان، أول جائزة، أول سفر، أول لقاء مع عبد الحليم حافظ وغيره من «مجرة» النجوم التي عشت واحدا منها.

وافق الأبنودي على إجراء حوارات «استكمال أجزاء الصورة». وافق ربما لأننا صديقان، وربما من باب أن «الحياة تجارب»، أو لأي سبب آخر. المهم أنه وافق، مع احتفاظه بموقفه غير المتحمس. لكن «الحماسة» لم تتأخر كثيرا فمع أول سؤال وأول إجابة كان يتدفق كالشلال، كالنيل الذي كان يفيض هناك في أبنود قبل أن يكون هناك سد عالٍ. وليس عجيبا أن الأبنودي يذكر أيام الفيضان هذه بكل الود ويضعها في الموضع الذي يليق بها من تاريخ مصر. وفي الوقت نفسه يعتبر السد العالي «مشروعه» الذي يفاخر به فهو القارئ لتاريخ مصر ـ المكتوب وغير المكتوب ـ بعين محبة وقلب رؤوم والقادر على اكتشاف ما كان في كل حقبة من «فضيلة».

مع السؤال الأول والإجابة الأولى كان الأبنودي يتدفق حماسة واكتشف واكتشفت معه كم كانت مبهجة تلك البدايات التي راح يقص حكاياتها.

هل الشعر هو مانح «الصبي» عبد الرحمن الأبنودي القدرة على العيش بعيداً عن «أبنوده» التي تسري في وعيه وتتشكل في ملامحه؟ هل كان الشعر هو براح حلم القروي في مدينة كل ما فيها محدد؟ هل كان الأبنودي يستعيد خيالات الغناء وأطياف اللعب، زهو الصيد وكدح البيادر والحقول، عبر قصيدة يطلقها قمراً ريفياً وناياً ورغيفاً بيتياً وحبة عرق لا تنحدر بل تظل عالقة أمام عينيه وعيوننا؟

سؤال ربما يظل بلا إجابة وربما كان قدر التجارب الإنسانية العريضة العميقة، كتجربة الأبنودي، أن تواصل حيويتها عبر «الأسئلة الكاشفة» ولا تهمد على بر «الإجابات القاطعة».

كان الأبنودي يبحث عن أبنود في كل ما يفعله وما تطاله يده في شباك مدرسة المحطة الذي «اشترى» المقعد المجاور له، لا ليطل منه على القرويين القادمين إلى قنا يومياً فحسب، بل ليؤكد لنفسه أنه - مثلهم - على سفر وأن وجوده في قنا رحلة عليه أن ينهيها ليعود إلى قريته، إلى أبنود التي بحث عنها عبر مواصلة ما أتاحته المدينة من تفاصيلها، كصيد العصافير وممارسة ألعاب الريف، محيطا نفسه بغلاف من السخرية ومصاحبا ذاك التمرد الذي كان ينمو معه عاما فآخر والذي عبر شعره في ما بعد عن وجوده («وحلمت بكل ذلك.. أفَتَّح الموانى.. واطربَّق الممالك») وعن وعورته («والأحلام ألف مرة.. رمتني للمهالك») وعن فضله في بناء صرحه الإنساني والإبداعي («ولكن كبرتني.. وكان فيّا استجابة»).

وعندما وقعت رواية «الأرض» للأديب عبد الرحمن الشرقاوي في يد الأبنودي لاحظ أن الشرقاوي هو أول من نشر للأبنودي قصيدة في جريدة «الشعب» وأنه شاعر أيضا. كان أول ما شغل الأبنودي من ملامح القرية التي تدور فصول الرواية على دروبها، هو البحث فيها عن أبنود، ذاك البحث الذي تطور ليصبح مشروعا إبداعياً قبل أن تأتي عنزات الجدة «ست أبوها» لتهدر هذا المشروع!

3 عنزات ونعجة!

يعود الأبنودي بالذاكرة: «كانت رواية «الأرض» أول عمل أدبي أقرأه عن الفلاحين. كنت كلما انتهيت من قراءتها عدت إليها مرة أخرى، لاحظت ما فيها من تشابه كبير مع واقع أعرفه. مثلا «عبد الهادي» في الرواية يشبه ابن عمي محمد مصطفى وكلاهما شخص مؤثر يدافع عن أرض البلد وزرعها في مواجهة الفيضان ويساعد في شدائدها وحوادثها. فهو، مثلاً، أول من يعمل على إنقاذ بقرة وقعت في بئر الساقية، مع أن كلا منهما لا يملك أكثر من الهدمة التي تستره والجدار الذي يأوي إليه. كما لاحظت أيضاً ما في تفاصيل الرواية من اختلافات مع هذا الواقع، مثلا «وصيفة» بنت «محمد أبو سويلم» والحرية التي تنعم بها ولم تكن واردة في الصعيد. كذلك الإقطاعيون الكبار بجبروتهم والسطوة التي تتيحها لهم ملكياتهم الواسعة. لم يكن وجود مثل هؤلاء الإقطاعيين وارداً في أبنود برقعتها الزراعية المحدودة الأشبه بخطين نحيلين يوازيان النيل وبالجبلين اللذين يضغطان على جنبيها من الشرق والغرب. لم يكن لدينا من الأصل «مساحات شاسعة» حتى يصبح ملاكها إقطاعيين ويمارسون سلطتهم علينا!».

يضيف: «شغلتني «الأرض» تماماً وعندما ذهبت إلى أبنود في الإجازة عملت جدياً على «ترجمة» الرواية من صوغها القصصي الذي يعبر عن مجتمع الوجه البحري إلى صوغ شعري يعبّر عن مجتمع الصعيد. ولهذا الغرض أحضرت كراستين وقلماً ورحت أكتب وأشطب وأصحح، أعدل في الحوادث وسلوك الشخوص، أختار اللفظ وأراجع الوزن. كنت مستمتعا تماما بالعمل وما حققته من إنجاز ولم يخطر ببالي أن الكراستين ستلقيان مصير «دفتر البيَّاض» الذي دونت عليه النسخة اليتيمة من ديواني الأول الذي مزقه أبي حين عثر عليه!».

يمضي الأبنودي سارداً: «كان يكفي أن «أغفل» عن أوراقي ساعة، أوربما أكثر قليلا، ليضيع عملي كله. ويبدو أن جدتي «ست أبوها» طلبت مني الذهاب لشراء شيء ما وطال المشوار قليلاً لأعود فأجد عنزات جدتي الثلاث ومعها النعجة البليدة ثقيلة الظل وقد التهمت الكراستين والرواية حتى آخر سطر وآخر ورقة مطبوعة أو مكتوبة باليد. ضاع جهدي الذي بذلته وشعري الذي كتبته. راحت التعديلات والتصرفات ولم يبق من الكراستين والرواية إلا «الكعوب» القاسية بدبابيسها المعدنية التي لم تستسغ العنزات أن تمضغها كما مضغت صوغ «الأرض» ليصبح ثاني عمل أفقده!».

لكن هل ضاعت أرض الأبنودي حقا؟ الواقع يؤكد أنها لم تضع فما أكلته العنزات لم يكن إلا تدريباً -أشبه بتمارين اللياقة - أجراه الأبنودي ليصقل أدواته ويرهف موهبته استعداداً لخوض ما خاضه بعد ذلك من تجارب متفردة مزجت الشعر والدراما لتبدع أولى الروايات الشعرية «أحمد سماعين». لوحظ أن الأبنودي يؤكد استيحاء شخصية بطل هذه الرواية من شخصية ابن عمه محمد مصطفى وأنه يشير في الوقت نفسه إلى التشابه بين محمد مصطفى الشخصية الحقيقية و«عبد الهادي» الشخصية الفنية في «الأرض». أيضا كان ما أكلته العنزات تمريناً شحذ قدرات الأبنودي وموهبته ليقدم بعد هذا أعماله ذات الطبيعة القصصية ومنها ديوانا «وجوه على الشط»، و«جوابات حراجي» الذي أوشك أن يتعرض هو الآخر لمصير «الأرض» ولم تنقذه إلا إرادة الأبنودي الحديدية!

المخطوط الضائع

إذا كان قيام الشيخ الأبنودي بتمزيق ديوان الأبنودي الأول مثَّل المواجهة بين إبداعه وسلطة العائلة والتقاليد التي نجح في تجاوزها، وإذا كانت حادثة العنزات تمثل قدرة الأبنودي على النجاة بموهبته من شظف الواقع وسخافات المعاناة اليومية، فإن الحاجز الثالث من حواجز الحصار كان «سلطة الدولة البوليسية» التي كان لا بد للأبنودي من أن يصطدم بها وأن يتخطاها في لعبة «قفز الحواجز» التي قدر عليه ممارستها من حصار لحصار ومن حاجز إلى آخر يليه.

ونقفز مع الأبنودي عبر المكان من أبنود إلى «شارع مصطفى أبو هيف» في وسط القاهرة حيث أقام في فترة باكرة من حياته في العاصمة. نقفز معه عبر الزمان، من الخمسينات إلى أكتوبر/تشرين أول 1966، إلى تلك الليلة التي اعتقل فيها للمرة الأولى - والوحيدة - وما يعنينا الآن من تفاصيلها ضياع المخطوط الأول لديوان «جوابات الأوسطى حراجي القط العامل في السد العالي».

يقرّ الأبنودي: كان أكثر ما آلمني في ليلة الاعتقال استيلاء «القوة» التي جاءت لاعتقالي على المخطوط الأول لديواني الأشهر «جوابات الأوسطى حراجي». ظلت عيني طوال الوقت على هذا المخطوط الذي استولت القوة عليه وخشيت أن يكون ضاع مني إلى غير رجعة. أحسست أنهم يقبضون عليه هو لا عليَّ أنا، أحسست بأنهم يعتقلون «حراجي» وأنني مجرد شاهد على هذا الاعتقال».

يضيف: «كنت خائفا على الديوان فعلاً، خاصة أنني لا أعيد كتابة أي عمل مرتين. لكن الحمد لله أنني استطعت بعد ذلك أن أستحضر «حراجي» وأضعه أمامي لنجلس أنا وهو وحدنا وأكتب الديوان مرة أخرى، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي أقوم فيها بمثل هذا العمل».

الأرض والعيال

بحسب ترتيب الصدور، يمثل «جوابات الأوسطى حراجي» العمل الرابع بين مؤلفات الأبنودي إذ صدر في 1969 بعد ثلاثة دواوين، أولها «الأرض والعيال» (1964) ثم «الزحمة» (1967) و«عماليات» (1968). صحيح أن مخطوطه الأول تعرض للاعتقال ثم الإعدام قبل أن يبعثه الشاعر مرة أخرى في صوغ جديد، لكنها لم تكن المرة الأولى التي يصطدم فيها ديوان للأبنودي بالسلطات، إذ حدث هذا الصدام مع الديوان الأول، أو بالأحرى «منذ الديوان الأول».

يستعيد الأبنودي زمناً صعباً: «كان النشر عسيراً في أوائل الستينات ومن يعتقد أن الطريق كان مفتوحاً أمام شعر العامية يرتكب خطأ شديداً إذ كنا نتعرض للحرب من كل الجهات، كأننا «الثورة المضادة» ضد شعارات الناصرية التي تنادي بالوحدة العربية والقومية، بينما نحن نكتب بلهجة محلية قطرية (هذا ما كان يقال). هكذا أحاطتنا سياسياً العشرات من علامات الاستفهام. وعلى المستوى الديني أيضا قالوا إننا نكتب بلغة «شعوبية» تخالف لغة القرآن الكريم، كأنها لغة أخرى غير العربية! واتهمونا بأننا نحاول تفتيت الأمة ونسعى إلى بعث الانقسامات التي تهددها».

يردف قائلاً: «وعلى المستوى الاقتصادي لم يكن لدينا المال اللازم لنشر أعمالنا وطرحها لتصبح مفرداً من مفردات الحياة الثقافية، أعني أعمالي أنا وصلاح جاهين وسيد حجاب. وكانت دواوين لجاهين وفؤاد حداد طبعت في فترة سابقة لدى دور نشر تقدمية كانت توقفت عن العمل - تقريبا - ليبدو الطريق مغلقا. وفجأة قرر أخونا الراحل سيد خميس أن نقوم بتكوين دار نشر تضم أربعتنا: جاهين، حجاب، خميس وأنا. وبالفعل كوّناها. كانت هذه الدار نقطة انطلاق مهمة وكانت أولى إصداراتها «رباعيات» صلاح جاهين التي يعتبرها الجمهور والنقاد أهم أعمال صاحبها، ما يدلك على مدى قسوة أزمة النشر بالنسبة الى العامية، إذ كان ينبغي لعمل مهم، مثل «الرباعيات»، لشاعر كبير، أن ينتظر مساهمة صاحبه في دار نشر خاصة ليخرج إلى النور! نفدت نسخ «الرباعيات» وبعدها بشهر صدر ديواني «الأرض والعيال» ونفد، ثم ديوان «صياد وجنية» لسيد حجاب ونفد. ورغم النجاح الجارف وأرقام التوزيع القياسية لم يعطنا صاحب المطبعة التي تولت طباعة الدواوين مالاً ولا نسخاً وكان علينا أن نشتري نسخ دواويننا منه لإهدائها للأصدقاء والنقاد. مع ذلك كان مكسبنا كبيرا، إذ نجحنا في فرض وجودنا على الساحة الثقافية. وأحدث «الأرض والعيال» رجّة ثقافية غير مسبوقة. كان شعرا يعبر عن بيئة خاصة وعالم لم يلتفت إليه الشعراء من قبل. كان تجربة طازجة ذات خصوصية من كل جوانبها وكنت «عُيِّنت» شاعراً بفضل قصائده منذ نشرها في مجلة «صباح الخير» وقبل صدوره. وبعد الصدور خلق الديوان «دراويشه» فانطلقت عشرات - ولا أريد أن أقول المئات - من الأصوات تقلد لغته وعالمه».

يوضح الأبنودي: من هنا بدأ خلافي مع بعض الشعراء الجدد فقد كانوا يكتبون عن قريتي لا عن قراهم، عن أمي لا عن أمهاتهم، وكنت أحاول أن أردهم إلى الصواب وصدق التعبير فكانوا يغضبون ويفسرون ذلك بأني أريد «احتكار» عالم القرية، مع أنني سرعان ما خرجت عليه في ديواني الثاني «الزحمة».

المصادرة قبل الإصدار

يقول الأبنودي: كان لا بد أن يجرف الزمن التجارب المقلدة التي لا تستند إلى أصالة ولا تقف وراءها معاناة حقيقية. وبالنسبة الى «الأرض والعيال» فإن جزءا من تجربته صودر قبل أن يصدر ومنع قبل أن يخرج للناس! كان لا بد أن نحصل من الرقابة على إذن بالطباعة، لكننا طبعنا الديوان قبل أن يصدر هذا الإذن والديوان نفسه كان معبراً عن الشقاء وعن آلام الفلاحين. وقيل يومذاك إن د. عبد القادر حاتم وزير الإعلام أغضبه الديوان ومضامينه وكان يمكن أن ينتهي الأمر بعدم صدور الديوان، لكن الكثيرين توسطوا ومنهم صلاح جاهين، حتى تم الإفراج عنه، لذا أصبحت مديناً له - للديوان - حتى الآن بفضل ما أحدثه من صدى واسع جعل اسمي يتردد في أرجاء مصر والمنطقة العربية. خاصة أنه طبع بعد ذلك أكثر من خمس مرات قبل أن يستقر في عالم الدواوين المسموعة ويليه 15 ديواناً. لكنه يبقى مميزا كفاكهة البستان الأولى».

بديهي أن يحمل الأبنودي كل هذا التقدير لديوانه «الأرض والعيال» الذي ولد واضح الملامح بعينين مفتوحتين، عارفاً طريقه ومحدداً وجهته، من السطور الأولى في قصيدته الأولى «خيط الحرير» التي جاءت كأنها بيان أو «مانيفستو» إلى عالم القرية الصعيدية الذي وضعه الديوان بقوة أمام مرآة الإبداع. وبديهي أيضا أن يتعرض الديوان وصاحبه لما تعرضا له من متاعب، وبديهي للمرة الثالثة أن يقول الأبنودي: «صارت قضية التربص بي وبشعري لازمة من لوازمي، تمشي ورائي كظلي، ولم تعد تزعجني، لأن هناك شيئا اسمه الغد يأتي ليسقط أطنان الأكاذيب والاتهامات ويجرف تياره من روجوها واختلقوها ولا تبقى سوى الحقيقة النقية الواضحة».

يؤكد الأبنودي: «دائماً سوف يظل التناقض قائماً بين المبدع الحقيقي والسلطة، خاصة الشاعر لأن مادته هي الحلم وأحلامنا ليست رومانسية ولا توهمية إنما هي مبنية دائماً على حسابات نبض الواقع ودرجات القهر ومعيار الرغبة في المقاومة. كذلك سوف يظل الاختلاف بين المبدع والسياسي، رغم أننا لسنا من مبدعي «الهواء الطلق» وأننا ملتزمون بقضايا أمتنا وهموم شعوبنا، لكن السياسي لا يحلم باتساع الرؤى مثلما يحلم الشاعر الحقيقي فلا أحد يستطيع أن يشبع أحلام الشاعر. وحين يحقق السياسي حلماً كان الشاعر حلم به يكون الشاعر انتقل إلى حلم جديد أبعد».

إنه «التمرد النبيل»، الطموح الأبدي الساعي نحو غد أفضل وواقع أجمل، لذا كان لا بد من الصدام مع السلطة، بدءا من شروعها في مصادرة «الأرض والعيال» حتى إعدام المخطوط الأول لـ«حراجي القط»، ثم اعتقال الشاعر نفسه وهي حكاية من «حكايات البدايات» أشرنا إليها، لكن تفاصيلها تحتاج إلى حديث آخر، فإلى الحلقة المقبلة.

مختارات شعرية لهذه الحلقة:

مقطع 1

الليل جدار

إذا يدن الديك من عليه

يطلع نهار

وتنفلت من قبضة الشرق الحمامه ام الجناح

أم الجناح أبيض في لون قلب الصغار

آه يا حبيبتي يا ام خصله مهفهفه

قلبي اللي مرعوش الأمان

لسه بيحلم بالدفا

والشمس كلمه طيبه وفيها الشفا

قلبي اللي كان قرَّب يموت

لسه بيحلم بالبيوت

زي الخرز

والدرب خيط

حرير.. ولاضم كل حيط

وف كل دار يترش حَب الحُب غيط

يتنفس اللبلاب على الباب الكبير

وبرضه ملضوم بالحرير

يا ام العيون الدفيانين

لو تعرفي من فين سمار النيل؟

منين؟

إوعك تقولي لأن جوفه عب طين

أسمر لإن الشمس فوقه من سنين

لو تعرفي طول السنين

على شاب عريان البدن

وبدراعاته المكشوفين

وانتِ عنيكِ اسمروا من شيل الحنين

ولإنهم متكحلين

بشيء حزين

بشيء في كل عيون صحابي الطيبين

اللي ف عينيهم انتظار

والليل جدار

إذا يدن الديك من عليه

يطلع نهار

الأبنودي ـ خيط الحرير ـ الأرض والعيال

أنا الشاعر اللي ف حكاية الأميره السجينه

وقالوا لي: عايز الدوا؟

عليك بالمدينه

وجيت المدينه

معلق ف كتفي الربابه الحزينه

لقيت النجوم وشها في التراب

وفوق الميدان كاكى نفس الغراب

ونفس الجوامع بلا أي مادنه

ونفس الإيدين اللي تضرب في بعض بأسف

ونفس البيبان اللي من غير ضرف

حبيبتي جميع الحاجات زي بعض

ما كانتشي أبدا.. صدف

لكين انتِ كنتِ فانوسي الملون

فانوسي المنور بعين برتقاني

وبعيون أخويا «خلف»

ومديت إيديا أداري الوتر

لا الوتر ينكشف

ورفرف عليا القزاز اللي طالع رموش

ولجلن أعيش

ولجلن تعيش في عينيكِ السلامه

يا ست البنات

مشيت في الشارع ده اللي مزحوم نيون

باترينات.. أسطوات

وقلت: يا حارس

وعربيه كانت ح تدهس عيال

لسه سايبه المدارس

ومديت إيديا أجيب اللي ما حد جابه

أجيب السؤال اللي عريان وخايف

في برد الشفايف

حبيبتي

أجيب له جوابه

الأبنودي ـ الربابة الحزينة ـ الأرض والعيال

back to top