في عمران الكذب 3 - 4

نشر في 29-02-2008
آخر تحديث 29-02-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي المجتمعات العربية اليوم، خصوصاً مدننا الحضرية، تبدو وكأنها البيئة المثالية لانتشار الكذب. ففي المساحات أو المدن الخليطة، التي لا هي قرية في جنوب مصر ولا هي مدينة مثل لوس أنجلوس الأميركية، يختلط الكذب بالصدق وذلك لأن هذه المدن لا تسمح بالاتصال المباشر كما في حالة القرية، ولا توجد فيها في الوقت نفسه المؤسسات القوية ذات القدرة الرقابية التي تحكم وكذلك تفرز الصدق من الكذب، مثلما هي الحال في المدن الحديثة كلندن وباريس ونيويورك. بعض المدن التي تقع ما بين قبل الحداثة (اقتصاد المقايضة)، وما بعد الحداثة (اقتصاد الديجيتال الرقمي)، هي خليط من القرية والمدينة، خليط مما قبل الحداثة، والحداثة، وما بعدها... مدينة القاهرة هي أوضح مثال لتلك المدينة المختلطة حداثياً، بين المدينة الحديثة ومظاهرها والقرية ما قبل الحداثية، ولا يقتصر ذلك على المدينة أو على المكان فقط، إنما يتوزع الحداثي أو ما قبل الحداثي داخل الشخص الواحد في أوقات مختلفة من اليوم الواحد أيضا، أي أن يكون الإنسان «ما قبل حداثي» في واحد من سلوكياته في الصباح، و«حداثيا» في سلوك آخر في المساء، و«ما بعد حداثي» في سلوك ما بينهما. كما لا يمكن أن نحكم على الفرد نفسه لا في المكان ولا في الزمان، لأنه شخص متنوع حسب المكان والزمان، فهو مثلا، تقليدي في حي المنيرة القروي وحداثي في حي مصر الجديدة الذي تسكنه صفوة المجتمع وما بعد حداثي في مدن الإلكترونيات الجديدة في شرم الشيخ وخلافه... إذن، كيف نقيم الصدق والكذب ونفرزهما في هذه الحالة، حالة الاختلاط في عنصري الزمان والمكان؟.

آباؤنا وأمهاتنا في القرى كانوا يحذروننا من زيف المدن وزخرفتها، لأن الزخارف في نظرهم هي محاولات احتيال لتمرير الكذب والخداع. فهناك كثير من البيوت التي تعتمد على أن تكون الواجهة جميلة ولكن الداخل لا يحظى بالاهتمام نفسه. وحتى في داخل الشقة نفسها تجد اهتماماً بحجرة الاستقبال فهي شديدة الأناقة، ثم ما إن تستأذن لدخول الحمام حتى ترى عالماً آخر من عدم النظافة وغياب الترتيبات نفسها. هذا النموذج معكوس في الحالتين الأوروبية واليابانية، حيث يكون الاهتمام عادياً بحجرة الاستقبال، بينما تنصب كل مجهودات النظافة على الحمام. معمار الفساد، وإن شئت سمه فساداً، وهي كلمة إنكليزية تنطق بالطريقة نفسها، هو معمار يؤكد على الكذب أو ربما يشجعه، ويمكن ملاحظة ذلك أيضا في معمار الدهاليز ومعمار التخفي، معمار الحرملك والمشربيات التي على الرغم من جماليتها، فإنها معمار كتمان وسرية.

يعتمد هذا النوع من معمار الزيف على ما يمكن تسميته بمعمار الواجهات الذي يزين واجهة المنزل ويترك داخله خرباً، عمران فساد وزيف لا عمران حقيقة. وبذا يفرز هذا المعمار منظومة قيمية تؤكد المظهر لا المخبر، إذ تقول: «نام معرش ولا تنام مكرش»، أي أنه يجب علينا أن نعطي الإيحاء بأننا نملك قوتنا وأكثر، وليس بالضرورة أن يكون هذا صادقاً... فالإيحاء بالغنى أهم من الغنى نفسه، ويذكر بعضهم الكثير من الأمثال الشعبية الأخرى مثل «من بره هالله هالله، ومن جوه يعلم الله». ويمتد معمار الكذب وقيمه إلى الكثير من السلوكيات التي نراها يوميا، مثل أن يستدين بعضهم ليمتلك السيارة التي تعطي الإيحاء بالقوة والسطوة والجاه، حتى لو لم يكن يملك الكثير من أدوات الإنفاق على هذه السيارة.

وكذلك مظاهر البذخ في الأفراح وإقامتها في الفنادق الكبرى رغم قلة الحيلة وقصر ذات اليد. وقد أحصى الدكتور محمود عبد الفضيل تكاليف الأفراح الزاهية في الفنادق الكبرى في القاهرة، فوجد أن تكلفتها السنوية تصل إلى بلايين الدولارات في مجتمع لا يزيد دخل الفرد السنوي فيه على ألف دولار. فمن أين لهؤلاء القدرة على هذا البذخ، وما الرسالة الاجتماعية والنفسية التي يريدون إيصالها، وما الذي يدفعهم إلى أن يلهثوا طوال حياتهم لإيصال هذه الرسالة، هل هو الإحساس بالاحتقار؟

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية-IISS

back to top