خواطر أميركية 3 من 3: أمريكا شيكا بيكا
كيف يمكن وصف أميركا؟ الأرجح أنها معانٍ مختلطة في آنٍ معاً، فهي عاصمة امبراطورية العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وهي مجتمع الوفرة وأرض الأحلام الفردية والعالم الجديد الذي يبدو مفتوحاً للجميع، ولابد من الاعتراف بأنها كذلك
بعد أن تطأ قدماك أراضي العالم الجديد لأول مرة، تعرف معنى التناقضات أكثر مما عرفته في أي وقت سابق، لا تكتشف للوهلة الأولى الفوارق بين أوروبا في العالم القديم وأميركا في العالم الجديد، هندسة العمارة الغربية متشابهة والطبيعة الخضراء متقاربة، ولكن الأيام التالية ستجعلك تكتشف أن لطف الناس العاديين ليس مصطنعاً لأنك نزيل فندق أو ضيف سيارة تاكسي، أنت لست غريباً هنا بسبب ملامحك العربية أو الشرق أوسطية، أنت غريب لأنك فقط لا تحمل جواز سفر أميركياً، لا يسألك أحد من أين أتيت؟ الكل وافد على البلد والكل طارئ ولا فضل لأحد على آخر ابتداءً، ولست مضطراً لتبرير نفسك مثلما هي الحال في أوروبا، ولا يسألك أحد لماذا أنت هنا؟. ليس لأن الأميركيين أكثر تأدباً من الأوروبيين، ولكن لأن الأمر عادي أن تتمثل الناس من كل الأعراق والجنسيات في العالم الجديد. تشعر بالفخر لأنك لم تذهب إلى هناك مثل المستعمرين الأوائل حاملاً بندقية بهدف الاستيلاء على الأرض، بل قاصداً الزيارة حاملاً آلة تصوير. ترتفع الأعلام بكثافة على المباني الرسمية وعلى السيارات والبيوت، لم أر في حياتي هذا الكم من الأعلام الأميركية سليمة، لأنها ببساطة مرتبطة في الذاكرة باحتراقها في التظاهرات، ومازالت شعارات جيلي من طلاب الجامعة المصرية طرية في الذاكرة «يا أمريكا لمّي فلوسك... بكرة الشعب العربي يدوسك»، «الله أكبر عاصفة على أميركا ناسفة»، ولكن هل مازالت صلاحية هذه الشعارات سارية؟. لست هنا بصدد التراجع مطلقاً عن الذكريات ولا حتى التبشير بالحلم الأميركي، ولكن تبسيط الامبراطورية الأميركية بكل ما عليها وبمجمل ما لها، واختزالها في شعارات يدفعنا أكثر فأكثر إلى عدم فهمها، وبالتالي عدم قدرتنا على التعامل مع التحديات التي تطرحها.ستكتشف أن أميركا ليست القوة العسكرية الأكبر في التاريخ فقط، ولا أكبر اقتصاد في العالم فحسب، ولا حتى الامبراطورية الرومانية في ثوبها الجديد، بل هي قبل كل شيء تصور أساسي يقوم على فكرة الحريات الفردية المنفلتة من عقالها، ويتحمل هذا التصور الأساسي وجود ربع الأميركيين بلا ضمان اجتماعي، في الوقت الذي تضم فيه بلادهم أكبر عدد من أثرياء العالم، وهو تصور يضم تناقضات كثيرة ولكنه مازال قائماً ومتوهجاً. تسأل أشخاصاً يعملون في مهن مختلفة من عامل الفندق إلى الأكاديمي والموظف والعاطل عن العمل، تجد أنهم يعتقدون جميعا أنهم سيصبحون يوماً ما أثرياء، ولكنك تعرف أن هذا الحلم غير ممكن التحقق للجميع، ولكنها الروح الأميركية التي تسري في العروق، وتلفت انتباهك في حافلات الفندق أو حافلات الرحلات السياحية عبارة مكررة ملصقة أمام الركاب بجوار السائق «نقبل بسرور البقشيش»!، وهي عبارة لن تجدها بالتأكيد في حافلات غرب أوروبا، فلا تختلف أميركا وغرب أوروبا في طبائع البشر ولا اهتماماتهم فقط، بل من حيث منطلقاتهم الفكرية. وفي حين يعتبر آدم سميث صاحب كتاب «ثروة الأمم» والمنظّر الأكبر للرأسمالية هو المعبر الفعلي عن «مجتمع الوفرة الأميركي»، تعد أفكار المنظرين الأوروبيين عن مبدأ «ترشيد الموارد» عمود خيمة مجتمعاتهم وسياستهم الاقتصادية. أغلبية الأميركيين طيبون ولا يعرفون اهتماماً بالسياسة العالمية ويجهلون تفاصيل القضايا الدولية، على العكس من الأوروبيين الذين يعرفون تسييساً نسبياً أكبر لقضايا المجتمعات والسياسة الدولية. عليك كأميركي أن تعمل فقط بأقصى طاقتك مهما كانت مهنتك (المعدل المتوسط لساعات العمل اليومية هي عشر ساعات)، لتحافظ على وظيفتك، كما يجب عليك أن تحلم بالثراء للتواؤم مع سيل لا يتوقف من الإعلانات الاستهلاكية عن سلع تبدأ من الإبرة وتنتهي بالطائرة الخاصة. كيف يمكن وصف أميركا؟ الأرجح أنها معانٍ مختلطة في آنٍ معاً، فهي عاصمة امبراطورية العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وهي مجتمع الوفرة وأرض الأحلام الفردية والعالم الجديد الذي يبدو مفتوحاً للجميع. حسناً لابد من الاعتراف بأنها كذلك، ولكنها أيضاً الحاكم المتفرد بأمور العالم، وهي بلد الاحتكارات الدولية التي لا تأبه بتوازن كوكبنا البيئي في سعيها نحو التوسع الاقتصادي، كما ان سياستها الخارجية لا تتسق في أغلب الأحيان مع مبادئ العدل والإنصاف، بل مع مصالحها ومصالح الاحتكارات العالمية التي تحرك سياستها، والوجوه المتعددة لأميركا عامل إضافي لجاذبيتها لدى شعوب الأرض، ففي حين يمكنك كملّون بحق أن تعتبر مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس رمزين أميركيين بامتياز، يمكن للآخرين من أصول بيضاء أن يعتبروا جورج واشنطن وإيزنهاور أيقونتيهم السياسيتين. وبسبب اختلاط المعاني والدلالات، وتمازج الألوان المكونة للشعب الأميركي، واختلاط السلبيات والإيجابيات، أصبح بالإمكان فهم أعمق لاسم الفيلم المصري «أمريكا شيكا بيكا»، والذي يعني بالعامية المصرية: اختلاط الحابل بالنابل. * كاتب وباحث مصري