بين الشاطئ والفن الفرنسي قصة طويلة

نشر في 04-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 04-09-2007 | 00:00
No Image Caption

أحدثت الرحلات إلى شاطئ البحر على متن القطارات السريعة الجديدة ثورة في فن الرسم الفرنسي. يبدو أن بلدة بوغنور لم تكن مصدر إلهام للفنانين فحسب. قد نستغرب الكلام على «المعاصر والحديث» لدى التحدث عن «بوغنر» و{إيستبورن». ما إن يُذكر هذان المنتجعان البريطانيان حتى تتبادر إلى أذهان الناس صور سيدات معمّرات يشربن الشاي على الجروف العالية. ثمة حال مختلفة في نصف القرن التاسع عشر في فرنسا، تبعاً لما يظهر المعرض الجديد للأكاديمية الملكية: «الانطباعيون على شاطئ البحر».

ثمة بلدات مثل «بوفيل» و{إتريتات» جسدت لدى مونيه ومانيه آخر ابتكارات ذلك العصر كنموذج للتطوّر وروح العصر. يعود الفضل في ذلك الى بريطانيين ثلاثة: نجح جورج الثالث في الترويج للسباحة في تسعينات القرن الثامن عشر واخترع ستيفنسون (1829) المحرك البخاري الذي اختصر المسافات بين باريس وشواطئ النورمندي. أما البريطاني الثالث فكان تورنر أحد أبرز مبدعي الانطباعية. دفعته سكك الحديد الى إنجاز لوحتَيه: «المطر» و{البخار والسرعة» (1844). دخلت القطارات السريعة عالم الانطباعيين فقلبته رأساً على عقب ليترك الموضوع بصماته على محطات القطارات. «محطة سان لازار» لمونيه تعكس روح التحضر الذي شهده عصره بفضل المحرك البخاري. أما «فندق الصخور السوداء، تروفيل»، فتجسّد العنوان نفسه على شواطئ البحر في تلك الفترة.

لم يكن التجدد أوّل ما لفت انتباه الفنانين لدى ترجلهم من عربات القطار في دياب وفيكان. حين زار بعض الرسامين المغمورين الأوائل أمثال جول بروتون وأوجين إيسابي شاطئ البحر لم يروا ذلك التحضّر الذي نعمت به باريس فحسب بل مجموعات من العمال البدائيين يرتدون ملابس غريبة ويقومون بأعمال تتطلب الكثير من الجهد. كان ذلك على بعد خمس ساعات من اللوفر. إلى أن راد الشاطئ رسام لم ينل ما يستحقه من التقدير. إنه أوجين لويس بودين. معه تحول الطابع المعاصر الذي اكتسبته بلدات مثل تروفيل مصدر إلهام للفنانين. «فالرسام ينجز بثلاث حركات من ريشته في الطبيعة أكثر ما يحققه خلال يومين في المحترف»، بحسب بودين. مع أننا، للأسف لا نذكر هذا الأخير بمناظره على شاطئ البحر فحسب بل بسيداته وثيابهنّ الفضفاضة.

الهواء الطلق

«الامبراطورة أوجيني على الشاطئ في تروفيل» رائعة بودين، تعكس مدى الرقي الذي بلغه الشاطئ النورمندي (مطلع 1863). صحيح تأثير مونيه لاحقاً بهذه اللوحة عن شاطئ تروفيل، بيد أنها مختلفة لأن بودين أنجزها في محترفه. اعتاد بودين وضع التصميم التجريبي لرسومه في الهواء الطلق لينهيها لاحقاً في المحترف. يقول عنه بودلير: «ليس مغروراً ليدّعي أن لوحاته كاملة». بهذه الكلمات صنّف بودلير صديقه في مرتبة أقل شأناً من رسامي عصره المبدعين.

على خلاف بودين رسم مونيه لوحته «فندق الصخور السوداء، تروفيل» في العراء. فأعلامه المرفرفة تعكس مدى واقعية صوره حتى إننا نشعر بأن هذه اللوحة مشبعة بحس السرعة الذي صار لاحقاً إحدى أبرز ميزات الانطباعية. رسم مونيه هذه اللوحة عامين قبل «انطباع شروق الشمس» التي كرست هذه الحركة باسمها. لم يكتفِ مونيه بالتوجه إلى شاطئ البحر ليرسم هذه اللوحة الخلابة فحسب بل يمكننا القول إنّه عاش هناك.

الصخور السوداء

رافق التبدّل في اسلوب الرسم توجّه جمهور الفن الى هذا النوع من اللوحات. لم تكن «فندق الصخور السوداء، تروفيل» لتلائم جدران الصالونات الفاخرة، لأنها ليست ضخمة بما فيه الكفاية. يختلف الرسم على شاطئ تروفيل أي اختلاف عنه في حديقة جيفرني لأن السرعة في الرسم تعني الاكتفاء بلوحات صغيرة. نتيجة لذلك، كانت لوحات الانطباعيين على شاطئ البحر بخسة الثمن يناسب حجمها الشقق التي صممها بارون هاسمن في باريس. مع هذه التغييرات إزدادت أهمية الوسطاء مثل التاجر بول دوران رويل الذي تولى بيع لوحات مونيه. انزلت متاجره الأعمال الفنية من عليائها لتصبح متوافرة للجميع. مع أن الرحلات إلى شاطئ البحر جاءت نتيجة التقدم التكنولوجي ثمة ثورة خاصة ولدت معها، أو سلسلة من الثورات حيث أن هذه الرحلات إلى شاطئ البحر حملت دلالات مختلفة لدى الرسامين.

اعتبر مانيه أن غياب القواعد هو الأبرز. وعلى غرار مونيه رأى في حرية رسم أشكال جديدة بأساليب جديدة ابتكار لغة جديدة يعبّر عنها بريشته. «الجَزر في بيرك» لوحة مذهلة لمانيه تفتقر إلى اللمسات الأخيرة ما يجعلك تشعر بأنها مفعمة بالحياة. وعلى عكس مونيه لم يكن اهتمام مانيه بتصوير شاطئ البحر كبيراً بحجم اهتمامه بالحياة الاجتماعية هناك. أما «المرأة على الشاطئ» (1873) فتعكس اهتمامه بالطريقة الجديدة للباس لم تعتدها النساء سابقاً. أما لوحته «على الشاطئ: سوزان ويوجين» فتُظهر أن مانيه في بيرك لم يتخلَّ عن بساطته في نقل مشاهد الناس التي تجلت بوضوح في لوحته «الغداء على العشب». قد يصعب علينا اليوم تخيّل الشاطئ وكأنه عالم المجهول، عالم مفتوح على كل الاحتمالات. هي حاله آنذاك تماماً كانعكاساته المؤثرة في الفن الفرنسي.

back to top