خواطر أشدود

نشر في 12-07-2007
آخر تحديث 12-07-2007 | 00:00
 محمد سليمان

ظلت إسرائيل حتى يونيو 1967 كياناً غامضاً ومزعوماً لا يملك مقومات الوجود والبقاء، وهذه الصورة التي انطبعت في أذهاننا يسرت لإسرائيل تحقيق أهدافها والانتصار علينا في معظم المواجهات.

لا يكفي أن تكون صاحب حق وأن تطالب به لكي تحصل عليه، فقبل كل شيء عليك أن تكون مسلحاً بأدوات المطالبة، وفي مقدمها المعرفة، والقوة بكل صورها، ثم القدرة على الحوار والتفاوض، وهي أدوات لم نمتلك معظمها لأسباب عدة لا مجال هنا لذكرها، وقد أفضى غياب تلك الأدوات إلى ضياع حقوق الشعب الفلسطيني وإلى خسائر وانهيارات أخرى مازلنا نعيشها حتى الآن.

ألحت عليَّ هذه الخواطر وأنا أراجع خريطة فلسطين المرفقة بمجلة «العربي» عدد مايو الماضي، لأرى كيف ظلت اسرائيل منذ قيامها، قبل ستين سنة، تَغير وتُغير وتبتلع القرى والمدن والمزارع، وكيف ضاعت حقوق الفلسطينيين وأرضهم. وأتذكر في الوقت نفسه زوج ابنة عمي الفلسطيني الذي كان يعيش ويعمل في القاهرة، الذي ظل حتى وفاته يحدثنا عن أرضه ومزارع أسرته شمال بلدة «أشدود» الشاطئية، التي تقع حاليا بين تل أبيب وعسقلان، مبرزاً وثائق الملكية ليؤكد حقوقه ويواصل أيضا أحلامه بالعودة.

بسبب الوصاية التي فرضتها علينا صحفنا وإذاعتنا وحكامنا، ظلت إسرائيل حتى يونيو 1967 كياناً غامضاً ومزعوماً لا يملك مقومات الوجود والبقاء، وهذه الصورة التي انطبعت في أذهاننا يسرت لإسرائيل تحقيق أهدافها والانتصار علينا في معظم المواجهات.

كنا حتى يونيو 1967 نواجه شبحاً، ولأن الأشباح لا تقوى على مواجهة العجيج والضجيج حاربنا بالإذاعات والخطب، وواجهنا بالطبول والأغاني. واقعنا كان، ومازال، يغري الإسرائيليين وغيرهم ويشحذ أطماعهم ويشجعهم ويدفعهم إلى التوسع وانتهاز الفرص للنيل منا وتقليص مطالبنا.

في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان تحرير فلسطين واستعادة حقوق أهلها هدفاً معلناً في صحافتنا وأناشيدنا وكتبنا المدرسية، وبعد هزيمة يونيو 1967 هبط سقف المطالب وصرنا نتحدث فقط عن الثأر ومحو آثار الهزيمة. وبعد حرب أكتوبر 1973 وبدء مباحثات السلام هبط السقف أكثر فأكثر، وفي الأعوام الأخيرة تراكم الدخان والضباب والصراعات بين الطوائف والفصائل، فصارت إسرائيل تفاوض نفسها، وتنسحب من غزة تخلصاً من عبء لا مبرر له، وتبني جدارها العازل لكي تبتلع ما يروق لها من أراضي الضفة، ولكي تفرض علينا حدودها الجديدة وتضيق على الفلسطينيين وتسجنهم في معازل يصابون فيها بالجنون، أو يقتلون أنفسهم، أو يلوذون تحت ضغط اليأس والحصار بالعنف والتطرف، خاصة وهم يرون اللامبالاة والعجز العربي وحروب الطوائف التي اندلعت هنا وهناك والفشل المتكرر للمساعي والمؤتمرات العربية.

بعد هزيمة يونيو 1967 أدرك عبد الناصر أننا لن نسترد حقوقنا قبل امتلاك أدوات المطالبة، فأعلن أن «ما أخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة»... وانشغل حتى وفاته بإعادة بناء الجيش وتسليحه وتدريبه وإعداده للمواجهة... وكانت حرب الاستنزاف التي كانت تدريباً حياً وانخراطاً في القتال.

ثم جاء السادات ليعلن بعد حرب أكتوبر وبدء مفاوضات السلام، وهو يتحدث عن حل النزاع العربي – الإسرائيلي، أن أميركا وحدها تملك تسعة وتسعين في المئة من أوراق الحل. وإذا وضعنا في الاعتبار ما تملكه إسرائيل، سنكتشف أن الرئيس السادات جرّدنا من كل أدوات المطالبة، خاصة بعد أن أعلن أيضاً أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب بيننا وبين إسرائيل. فالسادات بدلاً من تعظيم أدوات المطالبة بحقوقنا واستكمالها بدد كل شيء وجعلنا فرائس لا تملك ما تؤثر به أو تغير وكتب دون أن يدري شهادة وفاة للإرادة العربية قبل ثلاثين سنة.

ورغم الاحتجاجات والتظاهرات والرفض واغتياله في النهاية، ظلت الأطر السياسية التي وضعها راسخة ومؤثرة، ويكفي أنها أجبرتنا على مدى ربع قرن بعد وفاته بأخذ المتاح والمسموح به وما لا تريده إسرائيل، وهي في الوقت نفسه الأطر التي لم تمنعها من القصف والنسف والاجتياح واغتيال وأسر المناوئين لها والمقاومين لسياستها ومشاريعها.

لم تعد إسرائيل شبحاً كما كانت قبل أكثر من أربعين سنة عندما كنا تلاميذ في المدارس والجامعات، ولم نعد نحن أيضا، فقد تغيرنا وتضاءلت قاماتنا وأحلامنا، وصرنا أقرب إلى الأشباح والظلال، ومات حلم عودة قريبي الفلسطيني إلى بيته في بلدة «أشدود» ودُفنت صكوك ملكيته إلى جواره، ربما لأننا بعد كل هذه الأعوام لم نتعلم من هزائمنا.

 

كاتب وشاعر مصري

back to top