النص والواقـع

نشر في 25-02-2008
آخر تحديث 25-02-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

مازالت هناك دوائر ثلاث في الثقافة الموروثة يحظر الاقتراب منها: الدين، والسياسة، والجنس، ولو كان علم الاجتماع مستنيراً، ويعلم أن الظاهرة الاجتماعية في صحيحها تراكم ثقافي، ومتصل تاريخي فإنه يحيل إلى الثقافة الشعبية ويكتشف أن مكونها الرئيسي النص الديني والمثل الشعبي.

اليسار الإسلامي رؤية منهجية للفكر الديني وعلاقته بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للعصر، فهو تحقيق منهجي ومنطق فكري لدعوات الإصلاح السابقة ورفع شعار الجمع بين التراث والتجديد، القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، الماضي والحاضر.

وقد تعود الناس على خطابين: الأول خطاب ديني يعتمد على النصوص وتفسيرها خارج الزمان والمكان، خاصة لو كانت نصوصاً عقائدية شعائرية خالصة أو نصوصاً تتعلق بأمور الآخرة، وظيفته الترويح عن النفس، وتبخير الأزمات، والتعويض الروحي، والانتقال من هذا العالم البائس الشقي إلى عالم آخر، عالم السعادة والنعيم. وهو الخطاب السائد في معظم خطب الجمعة والبرامج الدينية في قنوات الفضاء. والثاني خطاب اجتماعي علمي، يحلل الواقع الاجتماعي الإحصائي بدعوى الالتزام بالموضوعية وإعطاء الحقائق على الأرض كما هي من دون تأويل ذاتي أو توجيه أيديولوجي، وهو ما يستحيل أيضاً في العلوم الاجتماعية، فكل تحليل كمي له قراءة كيفية، وكل واقع له رؤية، فالواقع متغير ومتحرك ومتطور، ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، فالعلم الاجتماعي يرصد مسار التغير الاجتماعي إلى الوراء لا إلى الأمام، وهو ما يسمى بمعارك التخلف والتقدم، فالخطاب الأول نص من دون واقع، والخطاب الثاني واقع من دون نص.

وإذا كان رجل الدين مستنيراً فإنه ينتقل من النص إلى الواقع، ومن كلام الله إلى أوضاع البشر حتى يكون خطابه أكثر دلالة وأوقع عند الناس، يجدون للنص صدى في حياتهم اليومية، وقد يغالي بعضهم في ذلك فيتحول الخطاب الديني إلى نقد اجتماعي خالص للسلطة والعادات الاجتماعية خاصة الجنسية منها في علاقة الرجل بالمرأة، والذكر بالأنثى، والشاب بالشابة، والفتى بالفتاة. فمازالت هناك دوائر ثلاث في الثقافة الموروثة يحظر الاقتراب منها: الدين، والسياسة، والجنس، ولو كان علم الاجتماع مستنيراً، ويعلم أن الظاهرة الاجتماعية في صحيحها تراكم ثقافي، ومتصل تاريخي فإنه يحيل إلى الثقافة الشعبية ويكتشف أن مكونها الرئيسي النص الديني والمثل الشعبي فيحيل إليه من باب تعليل الظواهر الاجتماعية والكشف عن مكوناتها ووضع أساليب تغييرها.

وهناك منهج ثالث يلتقي فيه الخطابان الديني والاجتماعي وهو منهج تحليل الخبرات اليومية ومعاناة الناس حتى ينزل الخطاب الديني على واقع حي، ويأخذ الخطاب الاجتماعي الإحصائي دلالات حية من تجارب الناس. فالأرقام صياغات كمية لحالات نفسية، والواقع الإحصائي لا يتكلم بنفسه، وهو مجرد ترجمة لمعاناة الناس، فالبشر هم الأساس، هم حلقة الوصل بين الدين والمجتمع، بين النص والواقع، بين الخطاب الديني والخطاب الاجتماعي.

يستعمل اليسار الإسلامي هذه المناهج الثلاثة في آن واحد لتوحيد الخطاب الثقافي ولتجاوز الاستقطاب الحالي بين السلفيين والعلمانيين، وهو أساساً استقطاب في الخطاب وفي مناهج التفكير، فهو يبدأ من النص مثل رجل الدين، ويختار الموضوعات الأكثر إلحاحاً طبقاً لفقه الأولويات ولعموم البلوى، ولا يبدأ بموضوعات كسبت من قبل مثل العقائد والشعائر أو بموضوعات تخرج عن شهادة الحس والعقل والوجدان ويصعب الوصول فيها إلى يقين، صنفها القدماء على أنها من السمعيات التي لا تعتمد إلا على الرواية مثل أمور الآخرة. ويبدأ بتحليل ألفاظ الأرض والعدل والظلم والصلاح والفساد، والتقدم والتأخر، والإعمار والاستقلال، وهو ما تحتاجه الأمة اليوم، عربية أو إسلامية، ويبدأ أيضا من الواقع مثل عالم الاجتماع، فالفقه أساساً هو فقه النوازل بلغة المغاربة أي فقه الواقع بلغة العصر، وما لم ينزل النص على نازلة يظل دائراً في الهواء حائراً، لا زمان له ولا مكان. وعلى هذا النحو يصدق النص في الواقع، والواقع يجد تأويلاً له وقراءة في النص. لذلك تلزمه الإحصاءات الدقيقة، من يملك ماذا؟ ومن يسيطر على من؟ ومن يحتكر ماذا؟ ومن يستغل من؟ ومن يسرق ثروة من؟ والإحصاء لغة العصر، والرقم هو النص الجديد. ويبدأ ثالثاً بتحليل الخبرات الحية عند الناس، فاللغة المباشرة أشد تأثيراً في الناس وأبلغ من تأويلات النصوص وإحصاءات الواقع، وقد برع بعض المشايخ والخطباء في ذلك تملقاً لأذواق الجماهير، ودغدغة لعواطفهم، وإثارة لأشجانهم وأحزانهم لدى مشايخ الفضاء بدعوى صنع الحياة، وعدم الحزن، ومشاكل الشباب والمجتمع، وتحول بعضهم، رجالاً ونساء، إلى خبراء في التحليل النفسي لمعالجة مشاكل الشباب وفي مقدمتها الزواج، وهي مادة الشعراء والأدباء والفنانين والسينمائيين التي لا يختلف عليها أحد، سلفياً كان أم علمانياً، ففي التجربة الحية يتوحد النص والواقع.

وعليها يتفق رجال الدين وعالم الاجتماع، وهي التجربة التي يلجا إليها أيضا الخطاب السياسي لتبخيرها وتخديرها والإيماء بالحل القريب لها، والدعوة إلى الصبر حتى يتم عبور عنق الزجاجة أو لأن التكاثر السكاني يلتهم كل معدلات التنمية «... تناسلوا، تكاثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة»، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار العالمية، لذلك اشتهرت وذاعت التمثيليات التلفزيونية التي تعالج القضايا الاجتماعية مثل ذيوع مباريات كرة القدم.

اليسار الإسلامي وتعدد مناهجه هو الذي يوحد بين الخطابات المتصارعة ويقارب بينها، فالخطاب الديني النصي لرجل الدين يكتمل في الخطاب الاجتماعي الإحصائي لعالم الاجتماع، وكلاهما يجد مصداقيته في تحليلات الأدباء والفنانين والفلاسفة الذين يصورون الواقع من خلال معاناة الناس، وبالتالي تقل حدة الاستقطاب الحالي بين السلفيين والعلمانيين بتوجيه كل من الفريقين إلى مصالح الناس ومعاناتهم اليومية، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، وكما يتقدم الأدب والفن كذلك يتقدم الفكر والعلم بدلا من اغترابهما خارج الزمان والمكان.

وهذا ما فعله لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ومازال الوطن العربي والعالم الإسلامي فيه متأخراً، واليسار الإسلامي إحدى صياغاته العملية من دون الدخول مؤقتاً في المسائل العقائدية التي مازالت عندنا من المقدسات التى لا يمكن إعادة تأويلها، وهو نوع من دراسات الثقافة الوطنية وعلاقتها بالتغير الاجتماعي، وهو ما يمكن أن يلتقي عليه خصماء الوطن والإخوة الأعداء، وهو أيضا صياغة منطق الإصلاح صياغة جديدة حتى يتحول من الإنشائيات والخطابات الفضفاضة إلى خطاب دقيق، يجمع بين تحليل الخطاب الديني، وتحليل الواقع الاجتماعي، ووصف الخبرات الحية، فالإصلاح بعد كبوته الأولى في حاجة إلى إصلاح ثان ينهض من جديد، يتعلم من تجربته الأولى ويضع أسسا منهجية لتجربته الثانية.

* كاتب مصري

back to top