كيف أفشلت ألمانيا مشروع ساركوزي؟

نشر في 17-03-2008
آخر تحديث 17-03-2008 | 00:00
 د. عمرو حمزاوي

أعاقت المعارضة القوية للألمان والبريطانيين قبول الاقتراح الفرنسي، وتركت أمام ساركوزي بديلين أحلاهما مرّ، إما التنازل عن الاتحاد من أجل المتوسط، أو القبول بإفراغه من المضمون والفاعلية، فقبل ساركوزي على مضض بالبديل الثاني، تفادياً لشبح الهزيمة الدبلوماسية الثقيلة الذي انطوت عليه احتمالية التراجع التام.

أقر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي في قمتهم الأخيرة مشروع الاتحاد من أجل المتوسط، بعد أن أفرغوه من المضمون وجردوه من الفاعلية السياسية.

نعود خطوة إلى الوراء: بعد فوزه بانتخابات الرئاسة الفرنسية، اقترح ساركوزي بناء آليات تنسيقية ومؤسسية جديدة بين الدول الأوروبية المتوسطية ودول جنوب وشرق المتوسط، واستندت رؤيته إلى قناعة مؤداها أن دول كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا واليونان، لها من المصالح والقدرات ما يؤهلها لتأدية الدور المركزي لصياغة علاقة الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية والأمنية والسياسية والتجارية بالدول الشرق أوسطية، وتطوير مسار برشلونة المتعثر.

أراد ساركوزي إذاً أن يجعل من أوروبا المتوسطية حلقة الوصل بين الاتحاد الأوروبي اليوم بأعضائه السبعة والعشرين، والشرق الأوسط، وتصور، ولم يكن هنا على خطأ، أن تطوير مسار برشلونة (بدأ 1995) مرهون بتطوير آليات جديدة أكثر فاعلية بين عدد أقل من الدول، يجمع قادتهم لقاءات دورية وتشرف سكرتارية دائمة على وضع قراراتهم وتوصياتهم محل التنفيذ.

فقد أثبتت خبرة برشلونة خلال ما يزيد على عقد من الزمان، محدودية تفعيل الشراكة الأورو - متوسطية، في ظل اتحاد أوروبي تتفاوت علاقات ومصالح أعضائه مع الشرق الأوسط، على نحو يحول دون التوافق على أولويات واضحة وسياسات فعالة.

في الاتحاد الأوروبي دول كجمهوريات البلطيق لا ناقة لها ولا جمل في الشرق الأوسط، ودول كبولندا وتشيكيا والمجر ترى في قضايا المنطقة فرصة لإثبات ولائها للحليف الأكبر الولايات المتحدة، ودولة كألمانيا تحكم مقاربتها للمتوسط مصالح تجارية وإرث الالتزام التاريخي تجاه إسرائيل، وأخيراً نجد أوروبيي المتوسط ذوي المصالح المتشعبة التي تجمع الإنساني والأمني (قضايا الهجرة) والسياسي والتجاري، لذا لم تتجاوز حصيلة برشلونة حدود اللقاءات الدورية واتفاقات للشراكة، فعّلت في بعض الحالات، ولم تفعّل في غيرها، والعديد من السياقات المؤسسية التي أضافت إلى بيروقراطية الاتحاد الأوروبي العتيقة.

رحبت دول شرق وجنوب المتوسط، باستثناء تركيا ومسار علاقتها بالاتحاد الأوروبي تحدده اليوم مفاوضات العضوية، بالاقتراح الفرنسي، وعلى نفس المنوال تبلور موقف أوروبيي المتوسط، خاصة إسبانيا وإيطاليا، بيد أن دول الشمال الكبيرة تحديداً ألمانيا وبريطانيا، عارضتا أفكار ساركوزي ونجحتا في إفشالها من خلال إعادتها إلى خانات اللافعل والرتابة البيروقراطية.

قرأت ألمانيا، وهي الممول الأكبر للاتحاد الأوروبي، الأمر على أنه محاولة فرنسية للهيمنة على صناعة السياسة الأوروبية تجاه المتوسط، وتهميش الأطراف الأخرى، ولم يختلف الموقف البريطاني كثيراً وإن اختلفت الدوافع، ففي حين تربط ألمانيا بالمتوسط مصالح تجارية بالأساس تخشى برلين أن تتراجع في سياق دور فرنسي ينشط اليوم باحثاً عن عقود وصفقات في جميع المجالات، من التكنولوجيا النووية السلمية والمعدات العسكرية إلى شبكات الاتصالات، تريد بريطانيا بدبلوماسيتها الشرق أوسطية والعربية النشيطة ألا تزاح جانباً عند صياغة السياسة الأوروبية تجاه المنطقة.

وكما يحدث دوماً في الاتحاد الأوروبي، أعاقت المعارضة القوية للألمان والبريطانيين قبول الاقتراح الفرنسي، وتركت أمام ساركوزي بديلين أحلاهما مر، إما التنازل عن الاتحاد من أجل المتوسط أو القبول بإفراغه من المضمون والفاعلية بصياغته كاستمرار لمسار برشلونة، وبمشاركة كل الدول الأعضاء من دون تمييز، وقد قبل ساركوزي على مضض بالبديل الثاني، تفادياً لشبح الهزيمة الدبلوماسية الثقيلة الذي انطوت عليه احتمالية التراجع التام.

وفي القمة الأوروبية الأخيرة (عقدت في بروكسل يومي الخميس والجمعة الفائتين)، استحال الاقتراح الفرنسي اقتراحاً فرنسياً - ألمانياً مشتركاً، يروم عقد لقاءات دورية بين كل رؤساء دول وحكومات الاتحاد والدول المتوسطية للتنسيق، ويعتزم الاهتمام بقضايا البيئة والتجارة.

بذلك أثبت الأوروبيون مجدداً قدرتهم الفائقة على الإفساد البيروقراطي لأفكار التطوير الاستراتيجي والسياسي، واستحالة أن يتجاوز توافقهم بشأن قضايا السياسة الخارجية، الحدود الدنيا للفعل والفاعلية.

* كبير باحثين في مؤسسة كارنيغي - واشنطن

back to top