في العمران والديموقراطية 3-4

نشر في 26-03-2008
آخر تحديث 26-03-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي من الجماعات التي تهتم بالتوريث للحكم في مصر، من غير الاسلاميين واليساريين، هم العاملون في وزارة الخارجية المصرية، وهي مؤسسة التوريث بامتياز في النظام السياسي المصري، وربما جزء من توريثها مبرر على غرار أبناء المهنة الواحدة، او الحرفيين (Guilds) في العصر المملوكي من النحّاسين والمبيّضين، والنسّاجين والسقّائين، حيث يتوارث الابناء مهنة الآباء، وكانت تأتي الطوائف الى مولد الحسين كل يحمل رايته، ويظهر الابن خلف أبيه.

لكن نسبة التوريث في الخارجية زادت عن حدها، لدرجة انها اصبحت حديث المجتمع، حديث لا يسمع به اصحاب الحظوة العاملون في الخارجية، لكنه يدور في الطبقات الدنيا التي وعدتها الثورة بمجتمع الكفاءة، فاذا هي تجد نفسها غارقة في مجتمع العائلة والقرابة. فمجتمع الخارجية المصرية (diplomatic corp) هو مجتمع يعيد انتاج نفسه، ليصبح ابن الوزير سفيرا، وابن السفير مستشارا... وهكذا دواليك.

هنا اذكر قصة قالها لي باحث اثق فيه كل الثقة، خلاصتها ان سفيرا ابن وزير حذره من الحديث عن موضوع وراثة الحكم، قال الباحث المعروف «انا ليست لدي مشكلة مع جمال، لأنه لم يورَّث بعد، مشكلتي معكم انتم الذين تحذرونني، وانتم بالفعل ورثتم مناصب آبائكم».

احسست بنبرة غضب من قول الباحث، فبالفعل موضوع جمال مجرد شائعة لم تحدث بعد، لكن المصيبة الكبرى هي في ما حدث بالنسبة للتوريث في طبقات الحكم التي هي ادنى من الرئاسة.

القصة هنا ايضا مثلها مثل غيرها. هي مسألة ترحيل لتوريث قائم من وسط الهرم السياسي الى قمته، كي يبدو الموضوع وكأنه موضوع جمال، رغم انه في حقيقة الامر هو موضوع آلاف من رجال الطبقة الوسطى والادارة المتوسطة (middle management) في الحكم، وان جمال هو آخر الحكاية وليس اولها.

وفي اعتقادي، ان هناك ورقة بحث اخرى يمكن ان يقدمها اي طالب دراسات عليا في العلوم السياسية عن نظام التوريث في السلك الدبلوماسي المصري، ومقارنته بالسلك الدبلوماسي في دول اخرى، نامية ومتقدمة على حد سواء، حتى يتضح مدى قربنا وبعدنا من العالم المتحضر.

ما ينطبق على وزارة الخارجية ينطبق على اولوية ابناء ضباط البوليس بدخول كلية الشرطة، وكذلك ينطبق على اولوية ابناء القضاة في تعيينات وكلاء النائب العام، حتى لو كانت درجاتهم اقل من اقرانهم من ابناء عامة الشعب.

ما صرح به الرئيس مبارك مقلق لنظام كامل مبني على القرابة لا على الكفاءة، وربما تكون اهم انجازات نظام مبارك بعد اعلانه عن عدم قبول التوريث لابنه، هو تكسير اواصر مجتمع القرابة والتوريث في قطاعات الدولة المختلفة، لأنه من دون الانتقال من مجتمع علاقات الدم الى مجتمع الكفاءة لن تتقدم مصر بشكل حقيقي، وستبقى في دائرة العشوائيات، ونحن نتحدث عن الريادة والقيادة، غير مدركين لما يحدث حولنا من حال انهيار عام.

الحقيقة التي لا مراء فيها، والتي هي حديث المجتمع المصري الآن، هي ان كثيرا من العاملين في النسق الثاني بأجهزة الدولة من سفراء ومديرين، بدأوا يدفعون ابناءهم باتجاه جمال مبارك، اي ان هناك هجرة داخلية، اذ يتمسك الآباء بنظام الدولة تحت قيادة الرئيس، بينما يتدافع ابناؤهم في اتجاه جمال كرئيس محتمل. هؤلاء هم اصحاب الشائعة، وهم من لهم مصلحة قوية في موضوع التوريث، ولذا سيصرون على بقاء الشائعة حتى لا ينفضح امرهم.

اذن، نحن لا نتحدث عن الرئيس وابنه، لكننا نتحدث عن ظاهرة الابنوية في البيروقراطية المصرية (Ibnism)، وظاهرة «الابنزم» هذه لها اقتصادها السياسي ومصالحها، استشرت في المجتمع المصري من اوله الى آخره، ولم يبقَ في مصر من لم يمارس التوريث بعد إلا الرئيس.

البيروقراطية المصرية الآن تبدو مكشوفة في عالم جديد يركز على الكفاءة لا على القرابة، لذلك هي تحاول جاهدة ان توضح للعالم الخارجي ان ممارسة التوريث هي جزء من «العادات والتقاليد» المصرية، وتقع ضمن الخصوصية المصرية، إنها عورة العائلية الانتهازية (amoral familism)، على حد قول استاذ الانثروبولوجيا العظيم ادوارد بانفيلد في كتابه عن مجتمع جنوب ايطاليا الموسوم بـ «العائلية سافلة الطباع: الاسس الاخلاقية لمجتمع متخلف» المنشور في عام 1953.

ان مجموع ما ذكرت من ملاحظات عن تفشي ايديولوجية العائلية والعائلية الحديثة في مصر، من سيطرة عائلات سياسية بعينها، وكذلك اقتصادية، لهي من أولى سمات المجتمع المتخلف واخلاقياته.

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)

back to top