ثلاثة دواوين تحنّ إلى المرأة وترثي بغداد محمد المغربي... شعريَّة مُفعمة بالحزن والغياب
أصدر الشاعر محمد هشام المغربي أربعة أعمال شعرية، نقف عند ثلاثة منها، في محاولة لاستجلاء معالم تجربته والمحطات الرئيسة في تكوين المعنى والصورة الشعرية لديه. فالمغربي من جيل جديد في الكويت، استطاع صنع ذاته وبلورة رؤاه الشعرية، وإن لم تحظ قصائده بالمتابعة الصحفية والقراءة النقدية الوافية.
ارتأيت أن استبعد الديوان الأول للشاعر المغربي «على العتبات الأخيرة»- 2002م من قراءتي هذه، بعدما تبين لي أن الدواوين الثلاثة الأخيرة تفي بالغرض الأساسي من الدراسة، وهي غنية بالعلامات والرموز التي تتيح لنا ربط القصائد ومضامينها بحلقة وصل واحدة، تكون هي المفتتح والمنتهى.قد لا تكون قراءة صحفية كهذه كافية لسبر أغوار التجربة الشعرية الكاملة لشاعر، لا سيما إذا كانت تجمع ثلاثة أعمال في محاور مشتركة. فالقراءات النقدية، في ما نرى اليوم، تنطلق من نص واحد ربما، وتستغرق عشرات الصفحات، من دون أن تفي هذا النص حقه، لا سيما إذا كان نصاً أدبياً غنياً بالرموز ومتعدد الدلالات.وفي حال شاعرنا هذا، فإن نصوصه التي بين أيدينا لا ينقصها البُعد البلاغي ولا الثراء الأدبي، وإنما أردنا أن نسلط الضوء على تجربته مكتملة، من دون أن نختزلها في نص واحد، لأسباب عدة منها، أن الشاعر لم يأخذ حقه من الاهتمام الإعلامي أو البحث العلمي وأننا في صدد كتابة صحفية وإن لم تخل من الدقة وبعض شروط البحث الأدبي. أما الدواوين الثلاثة التي نقف عندها فهي: «أخبّئ وجهك فيّ وأغفو» و«خارج من سيرة الموت» و«هو المطر».تنتظم ملامح التجربة الشعرية في هذه الدواوين عبر محاور ثلاثة، وهي المحاور الدلالية المولّدة للمعنى في النص. ويمكن استخلاصها في عناوين فرعية تأتي على النحو التالي:- الفقد.. مفتتح ومنتهى، - المرأة.. اكتمال الدائرة، - العراق... تاريخ الفقد وروح الأسىترتبط هذه الدوائر ببعضها عبر علاقات لفظية تقوم على المجاورة والاختلاف، على غرار النص الذي يلتف حول ذاته عبر دوائر مغلقة، ممتداً إلى محيطه الخارجي، أو المحيط الموازي، وهو القائم على تأثر الشاعر في ما حوله وعلاقته بالتاريخ وسيرورة الحدث.الفقد... مفتتح ومنتهىتشكل مفردات الغياب، مثل: الموت، الفقد، الغياب، النّزع، القبر، الرحيل، العويل، القتل، النهاية، المنايا، محوراً رئيساً في تجربة الشاعر محمد المغربي، فالحقل الدال لكلمة «موت»، كما يقول الأسلوبيون، يتسع إلى أبعد مدى، ولكنه في النهاية ينتهي إلى خلاصة واحدة، وهي أن «الفقد مفتتح ومنتهى» أي أن الشاعر لا يذكر الموت ضمن خط دلالي مستقيم، بحيث يغيب الفقيد وتنتهي الحياة، ولكنه يصنع المحيط الدلالي للموت بشكل دائري. ويكاد يرافق هذا الأمر الشاعر في جميع قصائده، ويندر أن تخلو قصيدة من قصائده، من إشارة لفظية تحيل إلى الفقد بوجه أو آخر. يقول في ديوان «خارج من سيرة الموت»:«مريب/ أيهذا الموت/ في كل الوجوه تكون/ في ثلج الجباه/ وخمرة الشفتين/ في الخدين/ في لهف العيون، ذهولها، نظراتها المتسارعات بزحمة الدنيا. /مريب أنت/ غيبيّ/ نديّ /خاطف /وجل / جبان / مفزع» يلمح الشاعر في هذا المقطع إلى أن الموت، لا يعرف استثناء، فهو يغزونا لا محالة ويخطف الوجوه كلها، الشفاه، الخدود والعيون، وليس خافياً اللغة التجزيئية التفصيلية التي يذكرها الشاعر لبعض أعضاء الإنسان، مثل العيون والشفاه، وهي أعز ما يملك في حياته. هذه اللغة التفصيلية التي «يبتدئ» منها الشاعر لصياغة نصه، «تنتهي» إلى رؤية كلية غائبة عنا، تتمثل في الموت، بكل غموضه وجبروته وغياب كنهه. إننا نرصد المعلوم في مقابل الغائب المريب.أما في ديوانه «أخبّئ وجهك فيّ وأغفو» فإنه يقول من قصيدة «في آخرنا يبقى»:«يا قائد الركب المبجل لا تطع هذي العيون/ فالمال أعماها/ فلا من واحة في السهل/ لا نبعاً!/ ولا حتى نخيل/ الموت أفناهم جميعاً قبلنا/ والوهم يبقى/ ينتشي/ إذ يلتقي ليلاً/ مقابر أهلنا»المرأة... اكتمال الدائرةتشكل المرأة محوراً أساسياً في تجربة المغربي الشعرية. إن لم تكن هي المرتكز الأساس لاكتمال الدائرة الدلالية، وكما ذكرنا فإن المعجم الدلالي للشاعر المغربي، يحوم حول الفقد، ومفردات الموت. وتأتي المرأة في سياق شعري يلتحم مع الجو النفسي واللفظي لقصائده، إذ يأتي حديثه عن المرأة بلغة الشوق والوله إلى شيء ثمين مفتقد، فالمرأة أخت وأم راحلة تارة وحبيبة غائبة تارة أخرى. يقول في قصيدة «نهر الآتي»:«أحتاجك قارب رؤيا/ وشماً لقباحة قابيل/ أمشيك مسافة ألفي شوق/ وأفيق على درب مكاني/ أبنيك/ أركّب بعضك/ عبثاً/ لا ينفعك الفعل الذاهب أدراج الريح/ ما أنت سوى وهم الروح»لا يأتي ذكر المرأة في سياق الاستئناس أو اكتمال الرؤيا بفرحة لقاء، وإنما هي قرينة الفقد والحزن دائماً. وفي هذا المقطع الشعري يستفتح بمفردة «أحتاجك» فنستكشف معه أننا إزاء شيء بعيد لم يكتمل، والشاعر بحاجة إلى قوة روحية ووجدانية يواجه بها بشاعة «قابيل» رمز الفقد، الوارد في النص. وانسجام المركب اللفظي للمقطع السابق مع الجو النفسي العام لمجمل أعمال الشاعر يبدو واضحاً، فالمسافة التي يمشيها الشاعر وكذلك الفعل الذاهب أدراج الرياح، كلها مفردات مكملة للمحيط الدلالي، فالمرأة لبّ المعنى، ومحور اكتمال الدائرة.وثمة قصائد أخرى كثيرة تؤكد ما ذهبنا إليه بالنسبة إلى موقف الشاعر من المرأة نذكر منها: «سيرة البلبل الغريب»، «ألج الجنون»، «المضاع شيء من الحلم» وكذلك قصيدة «وجه الدخان» ومنها أخذت عبارة «أخبّئ وجهك فيّ وأغفو» التي جعلها الشاعر عنواناً لمجموعته الشعرية الثانية.أما ديون الشاعر الثاني «خارج من سيرة الموت» فهو مكرس بكامله لقضية الفقد والغياب، كما هو واضح من العنوان، وتحظى المرأة فيه بنصيب كبير، يقول في «اللوح الثالث» منه:«سعاد/ أصيح ملء الشوق/ كيف مضيت؟/ إني الآن أجلس وسط غرفتك الأخيرة/ تقفز الأشياء في عينيّ/ أبصر كل ما شاهدته قبل القرار/ البابَ/ والدولابَ/ حيطاناً عليك بكت/ وصمتاً فاشلاً»العراق... الفقد وروح الأسى الديوان الثالث للشاعر يأتي تحت عنوان: «هو المطر» مع عبارة شارحة: «كالحب كالأطفال كالموتى»، وبالطبع يحيلنا هذا العنوان مباشرة إلى قصيدة بدر شاكر السياب المشهورة، وتذكر السياب يستدعي إلى الذاكرة شيئاً من تاريخ العراق ومآثره، والتاريخ العراقي لا يخلو من مرارة وسلسلة من مجازر ودماء، وبالطبع لن تتوقف الذاكرة من دون وقفة ملية مع واقع القتل والفقد في بغداد اليوم، أي أننا نعود إلى الدائرة الدلالية الأولى لوقفتنا هذه، وهي بعنوان «الفقد/ مفتتح ومنتهى» هذا الاستدعاء الذهني كله نستحضره في بضع ثوان، نحن نقف عند العتبة الأولى للديوان، يقول في قصيدة «أنشودتا سفر»:«أنا بغداد جئتك من حزين النخل/ أستجدي ابتسامة صبحك الكسلى/ حريق القلب/ منهوب الرؤى/ متكسر الأغصان/ دوني المشاعر/ قاتلاً بالسخط/ ملعون البصيرة/ معدم الإحساس محترقاً/ كناج من فنائي دون رجل أو يد»تسيطر مفردات الطبيعة على هذا الديوان، المطر، النخيل، الأنهار «بويب» الشمس، اليباب، القمر االمضاء. وإن كانت فجائعية الموت، والحزن الناجم عن الفقد، لازمة تنتظم حول الدلالات والمعاني كلها، يقول في قصيدة «بكائيته»:«أماه/ خان النجم/ والأقدار باعتنا/ وسرت على الفجيعة حاسر الرأس/ التفتُ هناك يلسعني هجير اليأس/ أصرخ في العيون: أتفرحون؟/ تطبلون، وترقصون؟/ اللعن ألعنكم/ أنا أمي بلا وردٍ قفت في رمسها/ النائي»يفتتح الشاعر نصه في هذا المقطع بكلمة «أماه» فالطبيعة هي أيضاً أمنا، والنجم المضيء دليلنا في الليالي المظلمة، حين نقطع المسافات بحثاً عمّن نحب. أما المطر، الذي يأتي الشاعر على ذكره في أكثر من قصيدة، فهو دليل الحياة وإنبات الروح في الوجود. والغريب أن يأتي الشاعر على ذكر «النخيل» في أكثر من مرة في أعماله الشعرية، ليكتمل المعنى منسجماً مع السياق اللفظي للديوان، فالمطر قصيدة السياب، والسياب شاعر العراق، والعراق موطن النخيل، إنها دائرة دلالية واحدة، تنتهي إلى الحزن والفقد والموت، واقع مرير تعيشه العراق وذاكرة دموية يدوّنها التاريخ.