تركيا تترقب مفاجآت الأزمة الراهنة
دخلت أزمة انتخابات الرئاسة التركية منعطفاً جديداً، بعد قرار المحكمة الدستورية بإلغاء الجولة الأولى من الانتخابات، بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني فيها والبالغ ثلثي عدد المقاعد البرلمانية، ثم زادت الأزمة استفحالاً مع فشل الجولة التي أجريت في البرلمان مرة أخرى لعدم اكتمال ذات النصاب. وبالتوازي مع الجولات الانتخابية والقضائية، يشهد الشارع التركي استقطاباً واضحاً بين مؤيدي حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي الذي يحظى بالغالبية في البرلمان، وداعمي العلمانية من غالبية الأطياف السياسية التركية والمتمتعين بتأييد رئيس الجمهورية والمؤسسة العسكرية النافذة. ولذلك لم تعد الأزمة منحصرة في الانتخابات الرئاسية، بل تعدتها إلى عصب النظام السياسي التركي ومؤسساته الدستورية، التي يحاول حزب العدالة والتنمية إكمال سيطرته عليها. وإذ يترأس القطبان الإسلاميان بولنت أرينش البرلمان ورجب طيب أردوغان الحكومة، فقد ظهرت بوادر الأزمة مع محاولة عبد الله جول تولي رئاسة الجمهورية، وهو ما دق أجراس الخطر لدى بقية الأحزاب السياسية التركية على اختلاف مشاربها الآيديولوجية والعقائدية. وعلى الرغم من أن منصب رئاسة الوزراء الذي يسيطر أردوغان عليه يتمتع بصلاحيات أوسع من تلك الممنوحة لمقام رئاسة الجمهورية الذي يسعى عبد الله جول الى الوصول إليه، فإن سيطرة حزب العدالة والتنمية على رئاسة الجمهورية كانت سترسي سابقة تاريخية في الحياة السياسية التركية. تستهدف دعوة عبد الله جول الى انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر الالتفاف على تبخر آماله في انعقاد النصاب القانوني في البرلمان وإحكام سيطرة حزب العدالة والتنمية على المؤسسات التركية، فضلاً عن تضييق الحصار على الخصوم السياسيين. ومن المتوقع أن يرفض رئيس الجمهورية الحالي أحمد نجدت سيزر تمرير المقترح البرلماني بالتعديلات المقترحة والدعوة إلى استفتاء شعبي عليه، ولكن في حدود المهلة التي يقررها القانون التركي والتي لا تقل عن أربعة شهور. وبالتالي فموعد الثاني والعشرين من يوليو القادم الذي حدده حزب العدالة والتنمية كموعد للانتخابات المبكرة والاستفتاء المحتمل، سيمر دون تنفيذ رغبة الحزب أيضاً. وقد حقق ترشح عبد الله جول لمنصب رئاسة الجمهورية خسائر سياسية صافية له ولحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية. الخسارة الأولى تمثلت في فشل عبد الله جول في الترشح للرئاسة مرتين، مما حدا به إلى إعلان سحب ترشحه، أما الخسارة الأخطر فهي عودة المؤسسة العسكرية النافذة في الحياة السياسية التركية إلى صدارة المشهد السياسي التركي، بعدما ابتعدت عن الأضواء السياسية منذ فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات البرلمانية الأخيرة. والخسارة الثالثة تبدو واضحة من الآن وجوهرها أن الأحزاب التركية المتنافرة على يمين الوسط ومثيلاتها على يساره ستحاول الاندماج معاً لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة سوية، وذلك لضمان تخطيها لحاجز العشرة في المئة اللازمة للتمثيل بالبرلمان التركي. والحال أن هذه التحالفات ستغير بشدة من التركيبة الحالية للبرلمان، لأن حزب العدالة والتنمية الحاكم قد حقق 34 في المئة فقط من الأصوات في انتخابات عام 2002 الماضية، ولكن بسبب حاجز العشرة في المئة اللازمة للتمثيل البرلماني، فقد حجبت باقي الأحزاب التركية عن التمثيل في البرلمان وتوزعت أصواتها على أكبر الكتل الفائزة، وبمقتضى ذلك التوزيع فقد حظي حزب العدالة والتنمية على 360 مقعداً من أصل 550 مقعداً هي كل مقاعد البرلمان. ستشهد الانتخابات البرلمانية التركية المقبلة ربما مفاجآت لم يتوقعها جول لدى ترشحه لانتخابات الرئاسة، وتتمثل على الأرجح في تقلص حصة حزب العدالة والتنمية في البرلمان المقبل. وفي حين لم يستطع أي حزب سياسي تركي منذ قيام الجمهورية عام 1923 أن يسيطر على الرئاسات الثلاث: البرلمان والحكومة والجمهورية في وقت واحد، فإن محاولة عبد الله جول لم تراع هذه الحقيقة الكبيرة والساطعة في الحياة السياسية التركية.ببساطة، لا يمكنك في غضون خمس سنوات تغيير ما استقر على مدار خمسة وثمانين عاماً. أما الدرس المستفاد إقليمياً من أزمة الانتخابات الرئاسية التركية، فمفاده أن الغالبيات العددية في البرلمان وإن كانت تخول الأحزاب تسيير أعمال الحكومة وفق الأصول الدستورية، ولكنها لا تعني بأي حال الانقلاب على ما استقر من أعراف وتوازنات، فضلاً عن أنها لا يمكن أن تلغي خصوصيات الدول وأنظمتها السياسية أو تطيح بالتوافق الذي تقوم عليه. كاتب وباحث مصري