برومثيوس

نشر في 01-05-2008
آخر تحديث 01-05-2008 | 00:00
No Image Caption
 فوزي كريم برومثيوس، سارقُ النار من الآلهة الإغريقية هديةً إلى الإنسان، أسطورةٌ أكثرُ من آسرة، بفعل الدلالة التي تنطوي عليها. وضع صياغتها الدرامية الخالدة الشاعر اليوناني أسخيلوس (426-525) ، تحت عنوان «برومثيوس مقيداً»، بعد مئتي سنة من حكاية الشاعر هسيود، في القرن الثامن قبل الميلاد.

مسرحيةُ أسخيلوس وحكايتُها مألوفةٌ في الثقافة العربية، وفي الشعر العربي. وكذلك رمزيةُ سارق نارِ التنوير للإنسان. ولنا أن نتخيلَ مقدارَ تأثيرها في الشعر الغربي، خصوصا في المرحلة الرومانتيكية الأكثر ملاءمةً: غوتة، شليغل، بايرون، شيللي، وبراوننغ. ولكن الاستجابة الموسيقية تبدو أكثر إثارة، فعددُ مؤلفاتها تجاوز الأربعة والسبعين عملاً، لعل أبرزها للموسيقيين: بيتهوفن، شوبرت، وليست.

المرحلةُ الرومانتيكية استجابتْ بحرارة: لأن برومثيوس كان رمزاً للثائر في المرحلةِ النابليونية، محررةِ أوروبا من عبودية الأرستقراطية، ولأنه على الصعيد الفردي يعكسُ، في منفاه وتعذيبِه، غربةَ وعذابَ الرومانتيكي، وتكفي استعادةٌ خاطفةٌ لحياة بيتهوفن، شوبرت، بايرن، وشيللي.

وبالرغم من أن الأعمالَ الموسيقيةَ التي استوحتْ برومثيوس لم تحتلّ موقعاً بارزاً، وتحققْ تأثيراً متميزاً لدى المولعين بالموسيقى، فإن الكتابَ الجديدَ الذي بين يديّ: «برومثيوس في الموسيقى» للبروفيسور Paul Bertagnolli (دار Asgate) يفرض هيبةً للموضوع برمته، بسبب إحاطته.

رغبتي بقراءةِ الكتاب لم تكن وليدةَ موضوعِه فقط، قدرَ ما كانت وليدةَ إعجابي بالمحاولة النقديةِ الدائبة للكشف عن طبيعة تَمثُّل النصِّ الشعري موسيقياً. كيف تابعَ بيتهوفن النصَّ الشعري في وضع موسيقى الباليه، خطوةً خطوة. كيف يحدثُ، بين يديْ المبدع، أن تتحولَ الصورةُ الشعرية، العاطفةُ الشعرية، أو نبرةُ الصوتِ الشعرية إلى نوتة لحنية، كيف يُبنى النص الشعري في تأليف موسيقي درامي، أو في تناوب أصوات غنائية، أو في أغنية. تماما كما حدث مع نص غوتة الشعري عن الأسطورة، حين تمثّلها شوبرت، ريتشارد، وولف. ولكن الأكثر إغواءً في القراءة هو تمثّل الموقف الفلسفي موسيقياً.

كان «فرانتس ليست»، وهو أمهر عازف بيانو عام 1848، قد قرر بعدَ استلامه مسؤوليةَ الإدارة الموسيقية في بلاط فايمر، أن يشرع في تأليف عملٍ كورالي ضخم بمناسبة الاحتفال بمنجز جون هيردر الفلسفي. العمل الكورالي يعتمد نصاً دراميا لهيردر حول حكاية بروميثيوس، ولكن بمنحى فلسفي.

كان هيردر (1744-1803)، ثالث العمالقة في مدينة فايمر، بعد غوتة وشيلر، على أنه نأى بنفسه قليلاً عنهما حين رفض انفرادَ البعدِ الجمالي بالعمل الفني، ولذا كانت أهمية عمله عن برومثيوس تكمن في معناه الفلسفي.

إن مبدأ «الإنسانية» في فلسفته لا يشير إلى الإنسان في صيغةِ الجمع، ولا إلى النزعة الإنسانية، بل هو مصطلح يجسد «هدفَ الإنسانية الأبعد، الذي يتحقق، عبرَ التقدم النامي، والواعي، وكعامل قوة ديناميكي، يفرضُ على الإنسان أن يناضلَ من أجل التقدّمِ والكمال».

لهذا المعنى يهدفُ تعبيرٌ رائعٌ عند أبي حيان التوحيدي، وجدتُه في «المقابسات» يقول: «الإنسانيةُ أفقٌ، والإنسانُ متحرّكٌ إلى أُفقهِ بالطبع».

هذه النزعة الكونية التي غلبت على النزعة الوطنية الضيّقة، دون إفقادها قيمتها التحررية، ألهبت حماس الموسيقي الهنغاري ليست، فاستجاب عن وعي لأفكار هيردر الفلسفية موسيقيا في عمله الكورالي: فهذه العواطفُ الواسعة النطاق، تتطلّب بدائل موسيقيةً غنيةً، تشتمل على فنون الندب، الكورال، المارتش، اللحن الرعوي، اللمسة الأوبرالية، إشباع شكل السوناتا التجريدي بمواد ملائمة لمفاهيم هيردر حول الأسطورة كقوةٍ أخلاقية... الخ

فصول الكتاب تتابعُ، بحياكةٍ ماهرة، العلاقةَ بين الكلمة الفكرة، وما تنطوي عليه من مخيلةٍ ومشاعر، وبين الألحان الموسيقية، التي أجدني أُسعدُ بمتابعتها في الإصغاء أنا الآخر، إذا ما كانت متوافرةً في رفوفِ مكتبتي الموسيقية، أو أكتفي بأمل متابعتها ذات يوم.

هذه العلاقةُ بين الفنون، التي تستهويني منذ بدأتُ كتابةَ الشعر، هي التي تمنحُ كلَّ فن مُنتَجٍ على حِدة خصيصةَ عمقهِ وقوةِ تأثيره. وهي التي تُشعر المبدعَ بطلاقةِ المُشرّد في الزمان والمكان.

back to top