هل العرب فعلاً في خطر؟

نشر في 05-11-2007
آخر تحديث 05-11-2007 | 00:00
 د. عمرو حمزاوي أكتب لكم من العاصمة المغربية الرباط، إذ شاركت خلال الأيام الماضية في حوار عربي- أوروبي- أميركي حول إمكانات ومعوقات التحول الديموقراطي في عالمنا، وقد استوقفتني كثيراً حقيقة أن جلّ نقاشات المثقفين العرب حول هذه القضية تبدو أسيرة لسردية خطيرة متعددة المضامين، تتواتر في ثنايا أحاديث التغيير الرائجة اليوم عبارات من شاكلة «نحن في خطر»، «العالم العربي يمر بمنعطف شديد الدقة»، «نجتاز مرحلة فارقة»، «نقود السفينة في بحر هائج مليء بالأمواج»، «ثقافتنا مهددة»، «الوضع لا يحتمل التأجيل» وغيرها الكثير ناقلة إدراكاً عاما بمرور مجتمعاتنا بلحظة استثنائية في تاريخها المعاصر.

مثل هذه الصياغات وإن كانت ليست بالغريبة على القاموس السياسي العربي أو على توظيف النخب الحاكمة والمعارضة لها في لحظات زمنية سابقة، وفي ظل توجهات مختلفة، إلا أن اللافت للنظر اليوم هو عمومية استخدام رمزية الخطر والربط التبريري بينها وبين حتمية إنجاز التحول الديموقراطي وتحديث مؤسسات المجتمع والدولة.

وأحسب أن هذا الأمر يثير العديد من التساؤلات المهمة: فمن جهة هناك شرعية للتدبر في ماهية ومدى اختلاف الأوضاع الراهنة عن حالة المجتمعات العربية في العقود الثلاثة الماضية التي اعتاد منتجو الخطابات السياسية والثقافية في المجال العام توصيفها في سياق زمانية أزمة مستمرة، فما جديد الحاضر إذاً؟ وهل هو الظرف الإقليمي بتعقداته في العراق وفلسطين ولبنان؟ أم هل هي سياسات القوى الخارجية في منطقة الشرق الأوسط واختلالاتها البينة اليوم؟ هل دخلت شعوبنا النفق المظلم لتوها؟ أم هي والجة فيه منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة في إطار فشل الدولة الحديثة في تنمية مجتمعاتها وتطويرها؟ وما رتّبه ذلك من فقدانها شرعيتها وتحللها التدريجي؟ وما الفروق النسبية في هذا الصدد بين المغرب ومصر والسودان وسورية وقطر على سبيل المثال؟ وبالتبعية هل نحن إزاء جملة تراكمات داخلية وإقليمية تساهم في صياغة إدراك عام بوجود أخطار ولحظات فارقة تستحيل معه الأخيرة بمنطق الفعل القولي الخالق للظواهر إلى حقيقة موضوعية «كليانية»؟ ومن جهة أخرى هل تتوافق سردية الخطر هذه مع شروط التحول الديموقراطي والتحديث أم ان تلك تقتضي سياقاً مجتمعياً بخصائص مغايرة؟ أوَلَم تشكل «اللحظات الاستثنائية» في تاريخ الشعوب مقدمة لصياغة (أو إعادة صياغة) علاقة الدولة-النخبة بالمجتمع-المواطن على نحو شمولي قسري؟ بعبارة بديلة: أليست هي لحظة «البطل المنقذ» وفقها هو الفاشية والهندسة المجتمعية من أعلى إن بمشروع تحديثي أو من دونه؟

بغض النظر عن تأرجح جل الكتابات العربية في هذا الصدد بين قراءتين متناقضتين ترتبطان عضوياً بتحديد تراتبية مستويات مفهوم الخطر وأنماط علاقاتها التبادلية؛ قراءة قومية ترى له بالأساس مستوى خارجياً يرتكز على كون سياسات القوى الغربية -خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001- تعبر عن مرحلة استعمارية جديدة لم تعد معها لسيادة الدولة واستقلالها في العالم العربي-الإسلامي سوى أهمية محدودة ومستوى داخلي يرى في ضعف ورخاوة الدولة والمجتمع لدينا سبب الانقياد أو الاستسلام أمام الهجمة الغربية، وقراءة ليبرالية تستند إلى أولوية الداخل، بمعنى فشل العرب في إنجاز تقدم حقيقي وتضفي على دور الخارج وظيفية القوة الكاشفة عن جوهر الفشل هذا، والدافعة بالتالي إلى حتمية مواجهته، فإن النتيجة المترتبة في كلا السياقين هي أن قضية الإصلاح تستحيل مجرد استراتيجية لحظيّة موقتة لخروج الشعوب العربية من حالة الخطر الراهنة تنتهي أهميتها بالوصول إلى شاطئ النجاة المزعوم ولا يؤسس لها في الوعي العام باعتبارها النهج العقلاني الوحيد لإدارة شؤون المجتمعات البشرية، مستندة إلى مضامين النقد الذاتي وتصحيح مسارات الحركة التاريخية.

الأهم من ذلك أن التأمل في خبرة عدد من المجتمعات المعاصرة في شرق ووسط أوروبا وأميركا اللاتينية والقارة الأفريقية يظهر بجلاء حقيقة تزامن بدء عمليات التحول الديموقراطي مع هيمنة رؤية إيجابية-تفاؤلية للحاضر والمستقبل في المجال العام المعني بالتركيز على إمكانات التغيير لحياة أفضل، ليس درءاً للأخطار بل لحاقاً بروح العصر وأملاً في التقدم، فلم تكن لحظة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات في أوروبا الاشتراكية السابقة على سبيل المثال معبرة عن انتفاضات مفاجئة لشعوب خشيت على وجودها، إن بحكم عوامل خارجية (الصراع مع الغرب) أو داخلية (الجمود المجتمعي الشامل)، بل عن دينامية قوى وتنظيمات مجتمعات رغبت في المزيد من الرقي من خلال إصلاح مسار تطورها السياسي (الحريات المدنية) والاقتصادي (مركزية القطاع الخاص)، أما مقولات الخطر واللحظات الاستثنائية فلم تنتج تاريخياً إلا بدايات أو ردات فاشية.

اللحظة الاستثنائية هي بحكم التعريف لحظة تهديد وجود الدولة والنظام المجتمعي، وجوهرها هو حق البطل المنقذ في الإدارة الشمولية للمجتمع وإعادة التأسيس الدكتاتوري لمعنى القانون والمصلحة العامة، دعونا نتذكر الترابطات على مستويي الخطاب والفعل السياسي بين حرب فلسطين وحريق القاهرة وانقلاب الضباط الأحرار في مصر، بين ادعاءات الخيانة والتصفية الجماعية وانقلاب صدام حسين في العراق، وغيرها الكثير. إذ مهدت مقولات الخطر دوماً لاسترجاعات شمولية وتكوين جبهات وطنية موحدة، ولم تكن أبداً المقدمة الوظيفية للإصلاح بصياغتها لوهم الفناء القريب ولإدراك خلاصي زائف... هنا يصير استبدال مكونات الديموقراطية والتعددية والتحديث بفاشية حامية أو بمستبد عادل تدعي أو يدعي توجهاً إصلاحياً أمراً يسيراً جداً، وهنا كانت كارثة العديد من المجتمعات العربية خلال العقود الماضية، فاحذروا.

* كبير باحثين في مؤسسة كارنيغي لدراسات السلام، واشنطن.

back to top