أبعد من صناديق الاقتراع!

نشر في 24-01-2008 | 00:00
آخر تحديث 24-01-2008 | 00:00
 بدر عبدالملك

سقط جانبان في تجربة امتحان «ديموقراطية» كينيا الهشة: الجانب الإداري للحملة والرقابة الانتخابية، من جراء التزوير، وسقط عنصر آخر هو انتقال العملية السلمية إلى العنف، وتفشى خطاب العنف على أساس الهوية. فهل كانت رائحتا النفط والغاز هما المحركان الخفيان للصراع؟

راهنت المعارضة الكينية على ثلاث أوراق: الورقة الأولى انتخاب الرئاسة الذي خسرته، والثانية ضغط الشارع، أما الثالثة وهي ورقة البرلمان حيث حصد أودينغا 99 مقعداً في البرلمان مقابل 43 مقعداً لكيباكي، ووفق اللوائح والقوانين، فإن الرئيس لا يمكنه تشكيل حكومة إن لم يكن لديه الثلثان، ولن يكون أمام الرئيس إلا خيار حكومة ائتلافية، ولن يتمكن من تخطي المعارضة نيابياً، خاصة أن رئيس المجلس صار من نصيب المعارضة، التي لاتزال تصر على عدم شرعيته بتهمة تزوير الانتخابات، لهذا ستكون كينيا منقسمة في الشارع ومنقسمة في البرلمان وأمامها معضلة دستورية وسياسية لابد من حسمها، وإلا سيظل النزاع العنيف يهيمن على الشارع، بينما الساسة داخل قبة البرلمان يتناقشون على الحل والحصص.

لقد انتقلت كينيا فجأة في لحظة ما بعد الانتهاء من فرز الأصوات وإعلان نتيجة فوز كيباكي على منافسه أودينغا، إلى حالة التوتر الانتخابي المعتادة في كل حملة انتقالية إلى مناخ من الصدام العنيف، الذي استشرى خلال ساعات في مناطق مختلفة، ثم سرعان ما توج بحمامات دم وحالة من الفوضى المتناهية والعنف المتصاعد، وكأن البلاد تخلو من عقل للحكمة وسياسيين قادرين على لجم أنصارهم، ورجال أمن فقدوا دورهم الأمني، فتحولوا إلى قوة تمارس الإكراه المتعمد في دولة بدت الطفيلية البيروقراطية تنخر جسدها وأجهزتها منذ زمن الرئيس الراحل «دانيال آراب موي» الذي رشح كيباكي خليفة له، وبذلك نستطيع أن نفهم بكل وضوح السنوات الطويلة التي عرفها كيباكي وهو بين أروقة الدولة، فترة كونه نائباً في البرلمان ثم وزيراً في وزاراتها المختلفة، فنائبا للرئيس إلى أن صار رئيساً لكينيا، فتضخّمت لديه شهوة السلطة، فكان عليه أن يعيد ترشيح نفسه خلال الدورة الانتخابية الثانية (ديسمبر2007). وإذا ما عرفنا أن كيباكي دخل الانتخابات برغبة قوية للبقاء في السلطة، فإن أودينغا المعارض لا يقل عنه طموحاً وتطلعاً للوصول إلى السلطة، كحلم قديم ودائم سعى للوصول إليه في جولات سياسية وانتخابية سابقة، وهو لا يقل شهوة للسلطة من منافسه كيباكي.

ما نود الحديث عنه مسائل عدة أبعد من صناديق الاقتراع، خاصة أن مظهر الصراع القبلي بهذا الحجم يعبر عن انفلات قائم على التحضير المسبق للكبريت وبرميل الزيت، وكل ما فعله الخارجون على القانون، هو أنهم وجدوا الانفعال والغضب الاجتماعي تربة خصبة لإشعال تلك الموجات البشرية، ودفعها في اتجاه الصدام الاجتماعي والعرقي والطائفي، بحيث تجاوز صناديق الاقتراع، وكأنما المهزومون حملوا معهم لوائح وأسماء من صوّتوا ضدهم ومن صوّتوا معهم!! ونتيجة هذا الهلع المفاجئ لدى الناس العاديين القاطنين بين أحياء شعبية بائسة موحدة ومشتركة، فهربوا في اتجاهات مظلمة من الأمكنة، ولكنهم سقطوا بين قبضات خصومهم، فكان مصير الأبرياء الهاربين من صراع هائج، الموت المجاني. ترى لماذا لم يفهم الخاسرون في صناديق الاقتراع أن من قتلوهم لا يملكون مفاتيح التغيير ولا يملكون دور التزوير ولا حتى هم بانتظار علب الذهب من سيادة الرئيس الفائز! فلماذا اندفع هؤلاء إلى أجساد الناس ضرباً وقتلاً؟ ولماذا وجد الأمن نفسه يضرب باتجاهات عشوائية تارة وقبلية وعرقية تارة أخرى، وفق احتجاجات ورأي وكالات الأنباء والمعارضة؟ فهل كان للأمن وأجهزته «المعتقة» دورهما في تكريس حالة الانقسام وتأبيد وجودهما في السلطة، التي منحتهما امتيازات كثيرة؟ ولماذا عجز الرئيس عن تحييد الفوضى والسيطرة على مكامن المشكلة؟

لقد كان مأزق كيباكي هو الفساد المستشري في أجهزته، بالرغم من نجاح برامجه الاقتصادية وخططه التنموية بما فيها برنامجه في مجانية وإلزامية التعليم، وحاول أودينغا اختراق نقطة ضعف كيباكي وهو الفساد المالي والإداري والأخلاقي في أجهزته، إذ سيطرت قبيلة كيباكي-كيكيو (%24 من نسبة السكان) على مرافق حيوية كالجيش والأمن والمواقع العليا في أجهزة الدولة، إلى جانب حصدها من الامتيازات والاستثمارات وعلاقتها بالشركات العالمية، بينما يرى أودينغا أن قبيلته ليو (%13 من نسبة السكان) تحاصرهم الإجراءات البيروقراطية والفساد الإداري والحزبي للحكومة المسيطرة. فإذا ما تصارعت القبليتان اللتان تشكلان %37 من السكان، فما دور %63 من هذا الشعب في لعبة التوازن والصراع؟ ولاسيما أن الجانب الديني هنا لا يؤدي دوراً رئيساً في النزاع، وإن كان المسيحيون ينتمون إلى كنائس وملل مختلفة، فإنهم يشكلون في النهاية %70 من إجمالي السكان بينما %30 موزعة على ديانات أخرى، كالمسلمين والهندوس والبوذيين والبهائيين والسيخ وديانات تقليدية. فأين صبت بقية القبائل والأعراق أصواتها في أثناء الانتخابات؟ وما الجامع بين المتنافسين داخل كتلة تشكل الثلثين من قبائل المجتمع وقواه التقليدية ومواقعه الاجتماعية وتأثيراتها الاقتصادية في عملية التنمية؟ ربما اللوحة الاجتماعية معقدة في فهم توزع الأصوات على ثماني محافظات أساسية، وأحياء توزعت فيها القبائل بشكل متداخل، لهذا أراقت «قامات» القتل ومناجل الموت دماء جيران الأمس، لمجرد كونهم صوتوا لشخص آخر.

في تجربة امتحان «ديموقراطية» كينيا الهشة، سقط جانبان: الجانب الإداري للحملة والرقابة الانتخابية، من جراء التزوير، وسقط عنصر آخر، هو انتقال العملية السلمية إلى العنف، وتفشى خطاب العنف على أساس الهوية. فهل كانت هناك رائحتا النفط والغاز المحركين الخفيين للصراع بين قوتين تريان أنهما تحلمان بتملكه في مناطق عرضة للتقسيم الجغرافي والإداري كما هو في دول عدة؟ خصوصاً أن المعلومات الأخيرة تشير إلى وجود النفط والغاز في كينيا، وهي بانتظار الاستثمارات الكبرى في حقل يشكل حلم الفاسدين والمتطلعين بشهوة إلى المال والسلطة.

* كاتب بحريني

back to top