زمن الرواية

نشر في 19-07-2007
آخر تحديث 19-07-2007 | 00:00
 محمد سليمان

الزوجة أمينة صارت صورة لامرأتنا المقهورة والعاجزة والمهمّشة، وصيحتها الواهنة «سي السيد»، أوجزت خوفها ومعاناتها ودارت تلك العبارة على ألسنتنا، وقادت منذ نصف قرن وحتى الآن حوارنا الدائر عن حرية المرأة وحقوقها.

في الأعوام الأخيرة، كَثُر الحديث في صحفنا ومجلاتنا عن زمن الرواية، وأعلن بعض نقّادنا أن الرواية أزاحت الشعر والفنون الأخرى وصارت ديواناً للعرب وأنزلت الشعر عن عرشه.

هذا الحديث، هو في الواقع، صدى لحديث آخر عن زمن الرواية دار مبكراً في الغرب منطلقاً من التحول الكبير الذي شهدته الرواية في أميركا اللاتينية أولاً ثم في العالم بعد ذلك، وهو التحول الذي اتكأ على جديدين بارزين ومؤثرين؛ أولهما فني تمثل في انبثاق تيار الواقعية السحرية في منتصف الستينيات من القرن الماضي عندما كتب الروائي الكولومبي غارثيا ماركيز روايته الشهيرة «مئة عام من العزلة»، ثم انخرط عدد كبير من كتاب وروائيي أميركا اللاتينية في تكريس هذا التيار وترسيخه، منهم بالإضافة إلى ماركيز، بورخيس، وفونتيس، وجورج أمادو، وماريو فاراغاس يوسا، وخوليو كورتازار، وباولو كويليو وغيرهم.

والجديد الثاني والأهم، تمثل في انتشار هذا التيار عالمياً، وفي احتفاء القراء بالرواية وإقبالهم على القراءة. وقد ألدّ هذا الإقبال مئات الآلاف وملايين النسخ التي طُبعت وبيعت. وأحد هؤلاء الروائيين، وهو البرازيلي باولو كويليو وزعت رواياته أكثر من عشرين مليون نسخة في لغتها الأصلية واللغات التي ترجمت إليها.

وكي لا يقال إن اللغتين الإسبانية والبرتغالية لغتان أوروبيتان والانحياز إليهما متوقع وبارز، نشير إلى الروائي التركي أورهان باموق الفائز بجائزة نوبل عام 2006 وإلى روايته «اسمي أحمر»

و«الحياة الجديدة» ومئات الآلاف من النسخ التي طبعت وبيعت في تركيا رغم شكوى باموق من انحسار القراءة في بلاده وقوله عندما زار القاهرة في يناير الماضى إن الأتراك كالعرب لا يحبون القراءة.

الرواية إذاً تعيش عصرها الذهبي في الخارج، لكننا لا نستطيع أن نقول إنها تعيش الازدهار نفسه في بلادنا لأن حقائق الواقع تشير إلى عكس ذلك تماما، فروايات نجيب محفوظ، أكبر وأشهر كتابنا، ظلت حتى وفاته تطبع بالمعدل ذاته أي ثلاثة أو أربعة آلاف نسخة، وكذلك معظم أعمال الروائيين العرب والمصريين؛ فالكساد هو الواقع الذي تعيشه الرواية والشعر والقصة القصيرة والكتابة بوجه عام. وذلك الكساد الذي أجبر الهيئة العامة للكتاب، أكبر دار نشر قومية، على عرض وبيع الأعمال الكاملة لكتابنا، ومعظمهم من الروائيين المعروفين والفائزين بالجوائز، برُبع ثمنها أو أقل في الشهرين الماضيين.

وفي مقابل هذا الكساد الذي حاصر الكتابة، راجت الصورة وهيمنت وسادت، وصار «التلفزيون أباً في البيت يقود ويوجه»، كما أقول في قصيدة لي. وهذا الرواج انعكس على الرواية التي تُرجمت إلى صور ومشاهد «أفلام وسهرات ودراما تلفزيونية» يراها ويتابعها المواطنون في القرى والمدن والكفور والنجوع، بهذه الترجمة قفزت الرواية من دائرة النخبة القارئة إلى الفضاء العام لتمارس حياة أوسع وأشمل ولتمنح الروائي شهرة عريضة ووجوداً في الذاكرة العامة لا يحظى به سواه من المبدعين.

فالأب المؤسس للرواية العربية، نجيب محفوظ، ظلت رواياته المطبوعة محدودة التوزيع، لكن الأفلام السينمائية المأخوذة عنها غزت المنازل والأكواخ والقصور لتحرك الوعي وتواجه الناس بتحولات الواقع وقضاياه. فالسيد أحمد بطل الثلاثية عاش بيننا ومعنا، وصار واحداً منا، مخادعاً وقامعاً ومتعدد الوجوه. والزوجة أمينة صارت صورة لامرأتنا المقهورة والعاجزة والمهمشة صيحتها الواهنة «سي السيد» أوجزت خوفها ومعاناتها ودارت بعد عرض الفيلم على ألسنتنا، وقادت منذ نصف قرن وحتى الآن حوارنا الدائر عن حرية المرأة وحقوقها.

نحن فى الواقع نعيش عصر الصورة وزمنها.

الشاشات صارت كتباً مصورة تواجهنا وتحيط بنا وتقدم لنا العالم مُختصراً ومُفسراً في الوقت نفسه. والخلط بين الرواية المكتوبة والأخرى المصورة أو المتلفزة يُوهم بعض نقادنا بصعود الرواية وانتشارها وينسيهم سطوة الصورة وسلطتها.

بسبب الاحتفاء بالرواية والحديث الدائم عن زمنها تحول عدد كبير من كتاب القصة القصيرة والشعر والنقد، ومن المترجمين والصحافيين إلى كتابة الرواية. ولا يشغلني هنا سوى ذلك الفن الجميل «القصة القصيرة» التي توارت وهاجر بعض كتابها إلى الرواية متناسين أن تشيكوف كان ومازال مبدعاً عظيماً قصصه القصيرة أجمل وأفضل من العديد من الروايات، وأن يوسف ادريس لم يكن أقصر قامة من كبار كتابنا، وأن نجيب محفوظ ظل حتى أيامه الأخيرة يتحدث بأسى ومرارة عن النقاد الذين انشغلوا برواياته وتجاهلوا مجموعاته القصصية.

 

كاتب وشاعر مصري

back to top