ما قل ودل: مسلسل الخلافات بين وزير العدل والقضاة

نشر في 20-08-2007
آخر تحديث 20-08-2007 | 00:00
 المستشار شفيق إمام

استعدت في ذاكرتي كيف كان وزراء العدل يحمون حمى القضاء ويذودون عن رجاله، ويحرصون على أن يقيموا معهم علاقات تتسم بالاحترام والتوقير المتبادل، علاقات من الود والحب. كيف كانوا يعملون ولا يتكلمون، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا تصدهم عن الصدق خشية أحد أو حرص على منصب وزاري.

في اجتماع العمومية لقضاة مجلس الدولة في مصر المعقود يوم الجمعة الموافق 10 أغسطس، في هذا الجمع الحاشد لقضاته، تذكرت وأنا أتابع وقائع هذا الجمع والكلمات التي ألقيت فيه، والوقائع المنسوبة إلى الوزير في ما اعتبره رجال القضاء عدواناً عليهم، وازدراءً برئيس ناديهم، استعدت في ذاكرتي، غضبة أربعة من رؤساء النيابة العامة في الكويت لكرامتهم، والتجائهم إلى القضاء لرفع دعاوى ضد وزير العدل، بسبب ما احتوته رسالة له إلى المجلس الأعلى للقضاء من عبارات اعتبروها مساساً بكرامتهم، إلا أن الوزير الفاضل محمد ضيف الله شرار لم يغضب ولم ينفعل، ولم يترك لهذا الخلاف أن يستفحل، بل ترك القضاء يقول كلمته في ما نسبوه إليه، فلم يكن يقصد بهم سوءاً أو يوجه إليهم اتهاماً، بل كان يريد أن يبرئ ساحة رجال النيابة العامة من أي شائبة تمس هذا الثوب الأبيض الناصع البياض للجسم القضائي، خاصة والكتاب صادر من وزير، يُجمع الجميع على طهارة سجيته ونقاوة سريرته، وأن فطرته جبلت على المكارم، ولو اضطر إلى غيرها، مجبول على الخير لا يحوم حول شر أبداً، حليم النفس طيب القلب، شهادة أقولها وإن جاءت متأخرة في حق هذا الرجل، ولكنها جاءت صادقة بعد أن ابتعد الرجل عن الأضواء وترك الحكم.

لهذا انتهى الخلاف بين وزير العدل ورجال النيابة العامة في الكويت من دون أن يتسلسل في حلقات كالذي نشاهده في مسلسل الخلاف بين وزير العدل في مصر وبين قضاتها. وكان آخر حلقات هذا المسلسل الاعتداء الذي وقع من وزير العدل على الزميل العزيز المستشار يحيى الدكروري نائب رئيس مجلس الدولة، ورئيس نادي قضاة المجلس، الذي علمت تفاصيله عند حضوري اجتماع الجمعية العمومية سالف الذكر، والذي فوجئت فيه بحشد هائل من قضاة مجلس الدولة، جاؤوا من كل حدب وصوب، حيث يؤدون أعمالهم أو يقضون إجازاتهم في المصايف أو في قراهم، ليلتقوا على قلب رجل واحد، يدين ويستنكر ما صدر عن الوزير من قول أو فعل في حق مجلس الدولة، وفي حق قضاته، وأخيراً في حق رئيس ناديهم الذي دمعت عيناه في لقاء كان محوره المرض الخطير الذي أصاب أحد المستشارين، وتطلب الأمر علاجه في الخارج، ورفض الوزير، بل وامتنع عن تنفيذ حكم قضائي بسفره إلى الخارج للعلاج على نفقة الدولة، وكان أن أمر رئيس الجمهورية بعلاجه على نفقة الدولة احتراماً للحكم القضائي ولمكانة القضاة.

إلا أن البادي، أن الموقف الإنساني لرئيس الجمهورية قد سبب حرجاً لوزير العدل، الذي كان من أول واجباته أن يبادر إلى تنفيذ الحكم القضائي الإنساني المذكور، فتحولت الدمعة الإنسانية إلى حدوتة يرويها الوزير في مجالسه العامة والخاصة بما يحمل معنى الازدراء والتهكم برئيس النادي، الذي لم يجد مناصاً من تقديم بلاغ ضد الوزير إلى النائب العام، بعد أن فشلت محاولته للقاء الوزير للتحقق من صحة ما نقل إليه منسوباً إلى الوزير.

استعدت في ذاكرتي كيف كان وزراء العدل يحمون حمى القضاء ويذودون عن رجاله، ويحرصون على أن يقيموا معهم علاقات تتسم بالاحترام والتوقير المتبادل، علاقات من الود والحب.

كيف كانوا يعملون ولا يتكلمون، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا تصدهم عن الصدق خشية أحد أو حرص على منصب وزاري، وهم يتعاونون مع رجال القضاء في تسيير العدالة.

تذكرت الرسالة البليغة الرائعة التي وجهها وزير العدل المرحوم محمد صبري أبو علم إلى مجلس الوزراء، في أيام الزمن الجميل، يطالب فيها باستقلال القضاء، وقد ألقى كلماتها مرة أخرى في الاحتفال عام 1943 بإصدار أول قانون لاستقلال القضاء، حيث قال في رسالته وفي خطابه:

«إن خير ضمانات القاضي، هي تلك التي يستمدها من قرار نفسه، وخير حصن يلجأ إليه، هو ضميره، فقبل أن تفتش عن ضمانات القاضي، فتش عن الرجل تحت وسام الدولة، فلن يصنع الوسام منه قاضياً، إن لم يكن له بين جنبيه نفس القاضي، وعزة القاضي، وكرامة القاضي، وغضبة القاضي لسلطانه واستقلاله.

هذه الحصانة الذاتية، هذه العصمة النفسية هي أساس استقلال القضاء، لا تخلقها نصوص، ولا تقررها قوانين.

هكذا كان وزراء العدل يتحدثون عن القضاء، ويحمون استقلاله ويزودون عن كرامة رجاله، لا يعتدون عليهم بالسب أو القذف أو الازدراء أو التهكم.

وتذكرت كيف استقال وزير العدل واستقالت معه الحكومة، لأن رئيس المحكمة الأجنبي مسيو كرشو - خلال فترة القضاء المختلط – قد أفشى أسرار المداولة عندما توجه إلى المندوب السامي البريطاني، يشكو زملاءه القضاة المصريين، الذين خالفوه الرأي وحكموا ببراءة بعض المتهمين في إحدى المحاكمات للرموز الوطنية، ونفذ حكم القضاء رغم اعتراض المندوب السامي، وأعتقد أن أحد المتهمين كان أحمد ماهر باشا أو النقراشي باشا إن لم تخنيّ الذاكرة.

تذكرت كيف كلف وزير الداخلية بناء على طلب وزير العدل، مدير أمن أسيوط بالتوجه إلى الدكتور محمد كامل ليلة، رحمة الله عليه، إبان عمله وكيلاً لنيابة أسيوط، ليعتذر له في مكتبه عن واقعة اقتحام أحد ضباط الشرطة، «اللوج» الذي كان يجلس فيه الوكيل في إحدى الحفلات السينمائية، لكي تحتله زوجة مدير الأمن وصديقاتها.

تذكرت كيف استقال شيخ قضاة مصر، وأول رئيس لمحكمة النقض المصرية، المرحوم عبد العزيز فهمي، انتصافاً لكرامة القضاء، بعد أن ترامى إلى سمعه أن مرتبات القضاء كانت موضع سجال في مجلس الشيوخ، في اليوم السابق، فذهب إلى المحكمة وافتتح الجلسة وسجل احتجاجه في محضرها، ثم توجه على الفور إلى الملك فؤاد ليصر على مقابلته ويقدم له استقالته.

ولا أجد ما أختم به هذا المقال سوى أن أوجه إلى قضاة مصر تحية إجلال وتقدير، لوقوفهم صفاً واحداً في غضبتهم لكرامتهم، وفي ما أصدروه من بيانات وقرارات استحقوا بها ما قاله عنهم وزير العدل المرحوم محمد صبري أبو علم.

back to top