نقطة النظام السوري وأزمته
الأزمة التي نعنيها تتعلّق بنظامٍ يواجه دوماً خيارين متباعدين، فيتخبّط ويتوتّر ويُدخل نفسه وشعبه في دوّامة لا تُحمد عقباها على الطرفين معاً. فيجنح في سياسته الخارجية باتجاهين متعارضين، ويتراوح في سياسته الداخلية ما بين «التحديث والتطوير»، و«الرغبة الجامحة» في الاستمرار بنفسه ولنفسه.يتحسّس الناس أيديهم في جيوبهم، ويتحفّزون لرفعها إلى الأعلى ليرسموا إشارة الاعتراض الشهيرة التي تعني أن هنالك «نقطة نظام»، تتمثّل في ممانعة مراجعة الحال في أساساته.حالة العناد الطويلة هذه أنتجت في سورية أزمة تتوالد وتتعقّد باستمرار، وهي الآن في مرحلة الاستعصاء والتمظهر في أشكال واتجاهات متناقضة، وبذلك تصبح الأزمة نفسها أيضاً محطة لنقطة النظام، من حيث ما تمثّله من تهديد للشعب والبلاد، إذ تهدّد النظام نفسه، ونعود بعد قليل إلى ذلك... الأزمة التي نعنيها هنا ليست من النوع الذي تبادر مجموعة «الأزمات الدولية» إلى دراستها والإضاءة عليها والدعوة إلى إطفائها ضماناً للسلم الدولي والإقليمي هنا وهناك. تلك تهتم بحرب صغيرة بين دولتين جارتين أو حرب داخلية أو نزاع أو شرارة قومية أو قبلية أو طائفية وغير ذلك.الأزمة التي نعنيها هنا تتعلّق بنظام حين تتعقّد أحواله بحيث يواجه دوماً خيارين متباعدين، يعجز عن اختيار أحدهما، وعن اختيار كليهما معاً، فيتخبّط ويتوتّر ويُدخل نفسه وشعبه في دوّامة لا تُحمد عقباها على الطرفين معاً، ولذلك أمثلة مباشرة على الأرض. ففي سياسة النظام الخارجية، يجنح –ولا يميل- باتجاهين متعارضين:أولهما، نحو دعم كلّ ما يُعيق «الهيمنة الإمبريالية» وسياساتها الإقليمية، فيجمع في يديه مفاتيح تهديد هذا الاتجاه، عن طريق لعب دور «فتوّة» الحيّ اشتقاقاً من الموروث الشعبيّ المصري، و«القبضاي» في الموروثين السوري واللبناني، لذلك أساساً يتحالف مع إيران الإسلامية الثورية، ويدعم المقاومات في كلّ مكان، ليُبقي إنذار حالة الطوارئ والاستنفار في متناول يده، بشكلٍ كامل أو جزئيّ على الأقل. في هذا الطريق قد يمرّ فوق حفرة المغامرة بتحدّي النظام الدولي والإقليمي، ولا يرى خطورة الأمر مع نشوته بكونه يكسب قسماً من الشارع العربي مازالت طموحاته القومية منطلقاً لمواقفه، من دون توقّف والتقاط أنفاس عند الأسباب الأكثر عمقاً لتعثّر هذه الطموحات، وأمام الكيفية التي لعبت فيها الأنظمة «القومية»، ومازالت تلعب دوراً مهماً في عرقلتها وتدويرها في دائرة مفرغة. وثانيهما، نحو الاعتدال والواقعية في «التضامن العربي»، والعلاقات مع الغرب، ومسائل التسوية والتفاوض والتعاون، وقد كان يراهن دائماً على ثبات المحور السعودي المصري السوري الذي تأسس بُعيد الحرب العالمية الثانية ومع الاستقلال، وكان يعود قويّاً بعد الهزات العابرة في السابق، في حين فقد أسباب هذا الثبات مع المتغيّرات الكبرى الجديدة. إمساك العصا من طرفيها بيدٍ واحدة على هذا الشكل سياسة قديمة من أيام الحرب الباردة، وهي حالياً لعبة خطيرة على حافة الهاوية لا تؤمن عقباها، على استقرار السلطة واستقلال البلاد في آنٍ معاً.وفي سياسته الداخلية يتراوح النظام ما بين «التحديث والتطوير» الذي يعني تغييراً محدوداً ما، و«الرغبة الغامرة الجامحة» في الاستمرار بنفسه ولنفسه.ضمن مجال الحريات قدّم النظام وعوداً موثّقة بضمان حرية الرأي وسنّ قانون للأحزاب وتحديث أوضاع الصحافة، ووعوداً أخرى غير مباشرة باحترام حق المعارضة والتعبير، وعاد عنها تحت حجّة الموجبات «الأمنية» التي طالما استُهلكت حتى شفّت وتهلهلت مع غبار الزمن.رغم ذلك، فالمثال الأكثر سطوعاً على التناقض يظهر في الحقل الاقتصادي الاجتماعي، حين تقدّم الحزب الحاكم بشعار «اقتصاد السوق الاجتماعي»، ليتمّ تسويقه على أنه «اقتصاد سوق» في جهة و«اجتماعي» في جهة أخرى.جاءت مسألة رفع الدعم عن أسعار الوقود مثالاً مباشراً لهذه الأزمة، فهو يظهر فيها عاجزاً تماماً عن ألاّ يرفع الدعم، وهذا يبدو طبيعياً ضمن اتجاه التكيّف مع الاقتصاد العالمي ومصالح الطغمة المالية المشتركة ما بين مستفيدين من السلطة ومستثمرين فيها، ولكنه يتعارض مع مصالح الشرائع التي كانت تشكّل بنية النظام القديمة القائمة على النسق الشمولي، من حزب قائد يعدّ مليوناً ونصف المليون من المواطنين وقيادات في «منظمات شعبية» ونقابات على النمط «الاشتراكي»، وإدارات وأجهزة مختلفة، تعتمد في حياتها على شكلٍ يضمنه الدستور الذي مازال «اشتراكياً» على حاله وعلى عاداتٍ أصبحت نافلة، ولكنها واقع عملي بالنسبة إلى الكثيرين... هنا تناقض بين ميل مجموعة «لبرلة» الاقتصاد القوية في قمة السلطة، و«النظام» نفسه ببنيته المترهلة العاجزة عن تحمّل أيّ تغيير واستكشاف أبوابه وولوجها. بذلك يكون اقتصاد السوق «سوقياً» وممانعته «اجتماعية»، والأمران في حقل النظام وملعبه.هذا العجز والتوتّر الداخلي، حتى بغضّ النظر عن الأذى المباشر الذي يُلحقه بالمجتمع الغائب في الاتجاهين، خطر لا يصيب النظام وحده، بل يهدّد الجميع بآثار مجهولة ومقلقة... ولا يكون المرء سعيداً بذلك حتى لو كان في جهة أخرى، بل تعيساً بحمله هموم النظام فوق همومه.* كاتب سوري