الباحث عقيل عيدان: تجربتي الفلسفية خطيئة مقدّسة لا أطلب غفرانها

نشر في 22-08-2007 | 00:00
آخر تحديث 22-08-2007 | 00:00

قد يكون النص الإبداعي حالة وجدانية تفلت من سياقها فتفيض حبراً على ورق، لكنّما البحث في غياهب الفكر والفلسفة موت بطيء وحالة قلق مستدامة. الباحث الشاب عقيل يوسف عيدان اختار الطريق الأصعب فقدم إلينا ثلاثة مؤلفات فلسفية، أحدها رسالة ماجستير. يعمل مراقباً للبرامج الثقافية في إذاعة الكويت وهو عضو فاعل في مركز {الحوار» للثقافة.

كتابك عن الفيلسوف النمسوي فتغنشتاين سلط الضوء على شخصية يجهلها كثيرون ، كيف خطرت لك فكرة الكتاب؟

كنت ولا أزال أردد قول الفيلسوف الألماني نيتشه بأن أصل نفس الإنسان حرب لا هوادة فيها، وليس من شأنك أن تهتم بالأرباح والخسائر فهذا من شأن الحقيقة لا أنت، وإنك لو أردت الراحة «فاعتقد» ولو أردت أن تكون من حواريي الحقيقة «فاسأل». كان فتغنشتاين، في تقديري، ابن السؤال البار. كان السؤال يعني فتغنشتاين مثلما يعنيني لأنه صنو المعرفة بل مؤسسها، بعد عبورها مراحل التشكل الأولى وتحدّد الملامح البارزة لموادها وأصنافها إلى حدّ الاستتباب والرسوخ في البيئة والأذهان كأنها عقيدة لا تقبل «التجديف»! فينبثق السؤال ليزلزل الأرض تحت أقدام «المؤمنين» الواثقين ويزرع بذرة الشك في اليقين، يقين معرفة سابقة، طارحاً أفكاراً ومجترحاً استفهامات. كان فتغنشتاين كل ذلك وأكثر فكان لا بد من تقديمه إلى القارئ، خاصة أننا نكاد نجهل تماماً شخصية مفصلية في تاريخ الفلسفة والأفكار مثل فتغنشتاين.

يعاني العالم العربي قلة في عدد المفكرين وغياباً شبه تام للوعي النقدي والفكري، هل توافقني الرأي؟

أتفق معك نسبياً في ما ذهبت إليه فالوعي الفكري والنقدي والثقافي في العالم العربي راكد، بل يكاد يقع تحت هيمنة حركة ارتدادية غليظة وجهل يفضي إلى البوار والعقم والانهيار النقدي والفكري والثقافي عامة. لا بدّ للراصد المحقق من أن تقع عيناه على حالتي التعثر والتردي اللتين لحقتا بصور النقد والتفكير والثقافة كافة. لهذا الركود، في تقديري، أسبابه الجمّة، منها الفشل في إقامة العلاقات الصحيحة بين الثقافة العربية الراهنة والمنجزات الفكرية والثقافية العالمية في مجالات الفنون والعلوم والفلسفات والآداب. غير أن أهم أسباب الركود في الوعي النقدي والفكري والثقافي يرجع إلى كيفية إدارة شؤون الدول العربية سياسياً واجتماعياً ونظرة القائمين على شؤون الفكر والثقافة دوراً وتأثيراً. مع ذلك، لست متشائماً، فأحوال الفكر والثقافة الراهنة مردّها ظروف وملابسات عارضة. مهما يكن خطرها وقتامتها فإنها ستنتهي بكل آثارها السوداء وسيعود فكرنا وتعود ثقافتنا إلى خصائصها الجوهرية ودورها المبدع الأصيل.

هل تعتقد أن للفلسفة أثراً مباشراً في حياتنا المعاصرة؟

ينبغي أن نقرر حقيقة ابتدائية هي أن الفلسفة لا ترتاد المألوف والمعلوم بل القارات المجهولة وتسعى إلى اكتشافها، إن جاز التعبير، ولا يملك الإنسان المعاصر صبراً على ذلك. ترى هل سيتغير ذلك مستقبلاً؟ لا أدري، لكنني أفترض، بناء على سوابق في التاريخ، انه سيتغير وسيكون للفلسفة الوجود والحضور اللائقان بها. لكن ينبغي لها كي تنجح وتصل أن تقنع الناس بأنها ليست عبثاً وليست بالعمل السهل وبأنها قبل كل شيء ضد «النفاق» بجميع أشكاله. خلاف ذلك تغدو الفلسفة مدعاة للضحك إن لم تقتحم جميع الجبهات وتخلع المزاليج القديمة الصدئة وتفتح الأبواب وتبدّل واقع الناس تبديلاً فعلياً.

صدر لك (بالاشتراك) كتاب عنوانه «المرأة/الإنسان». ما أبرز المحاور التي يناقشها هذا الكتاب وما رأيك بمستوى الوعي لدينا في ما يتعلق بحقوق المرأة ؟

ينبغي بدءاً الإقرار بحقيقة مهمة هي ان التعصب ضد المرأة ليس مقتصراً على عصر من العصور أو بيئة من البيئات، بل عرف منذ عصور قديمة وفي بيئات مختلفة. ينبغي ألا ننسى أنه بالكاد مضت مئة سنة على تمكّن المرأة في بعض الدول من أن تختار المهنة التي تشاء وتخرج من المنزل لتحيا الحياة التي تريد. قبل ذلك مرت أجيال كثيرة اعتبرت المرأة في منزلة أدنى من منزلة الرجل وليس لها أن تتخذ عملاً غير الشؤون المنزلية! بل نجد نزعة «التعصب» هذه ضد المرأة لدى كتاب مشهورين في كل زمان ومكان. ففي أحد الأسفار القديمة كتب أحد الكهنة: إن شرور الرجال خير من صلاح المرأة ! حيال مثل هذا التعصب غير المبرر كان لزاماً علينا ونحن ندعو إلى التنوير في المجتمع، في هذا الكتاب وسواه، أن نخوض غمار مكافحة هذه النزعة اللاإنسانية المسكوت عنها والمرفوضة تماماً.

تحمل شهادة الماجستير في الفلسفة وتعدّ أبحاثا فكرية جادة. ماذا قدمت لك هذه التجربة؟

لا ريب في أن لكل تجربة ثمارها، إنما قد تعجب لكلامي لو قلت لك إن الكتابة في هذا المجال حالة انتحارية متجددة، حالة المجنون الذي لا يفسر نوباته الجنونية لكنه يهاجم بها العالم الخارجي واعياً. لم تكن حقيقة تجربتي يوماً خاضعة للمراسيم الجامدة أو للأشكال المؤبدة. إنها سطوة الغزال الجامح في غابات الحلم، شموخ امرأة أسطورية تفتح أبواب الجحيم بالتفاتة آسرة، أو تشرع مقصورات العشق القاتل في لحظة حاسمة. إن جبروت التجربة الفلسفية يبدأ من قلق الأسئلة، من رؤيا تمارس حضورها «الإرهابي» لتعيد تشكيل الذي لا شكل له. لعل التجربة الفلسفية، مثلما أقدّرها، توأم الموت الجميل الذي لا يعطي مواعيد للزيارة ولا خرائط جاهزة للفردوس. خارج منطقة المستحيل لا تكون التجربة الفلسفية. إن تجربتي الفلسفية كالخطيئة المقدسة التي أقترفها ولا أطلب عنها المغفرة بل أتحدى بها العالم.

هل لديك مشاريع جديدة في التأليف والكتابة ؟

لدي عمل يحمل عنواناً أولياً «الجميل والمقدس» ويتطرق إلى حقل أسبر أغواره للمرة الأولى هو حقل الاستشراق. بصورة أدقّ أقوم في هذا العمل بدور التحقيق والترجمة لثلاثة بحوث «غير تقليدية» حول الحضارة العربية – الإسلامية لعميدة الاستشراق الألماني البروفيسورة آنا ماري شيمل. إنه عمل لا يتكئ، في تقديري، على التفكير فحسب بل هو تفكير وسعي حول التفكير. عمل قوامه ثلاثة؛ الرؤيا والرؤية والفعل الجمالي.

ما أكثر سؤال يقلقك ؟

لعله السؤال الجدلي حول ثنائية الموت – الخلود. سعى الإنسان، أي إنسان، في مختلف العصور إلى الخلود عبر الانتصار على الموت، في تراكم العمل وفي التاريخ والفن والاعتقاد بوجود حياة أخرى أكثر تكاملاً وتواصلاً ونقاء، رغم أن لفكرة الخلود جانباً سلبياً برزت من جرائه أشكال عديدة للعنف كالحرب مثلاً، والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى شرقاً وغرباً. لكن أذكر هنا على سبيل المثال مجزرة «غيرينيكا» القرية الإسبانية التي قصفها النازيون وقضوا على من فيها من أطفال وشيوخ ونساء، فالموت آت لا ريب فيه. قيل إن التحديق إلى الموت صعب مثل التحديق إلى الشمس. لطالما أكّد هذا التحديق شموخ الإنسان وسعيه إلى تعزيز الإنسانية بحيث ينتقل الإنسان من عمره فرداً إلى عمره في الأمة وعمره في الإنسانية جمعاء.

يمارس مركز «الحوار»، للثقافة، وأنت أحد أعضائه، نشاطاً جيداً. حدثنا قليلاً عن هذه التجربة.

إن مركز «الحوار» للثقافة (تنوير) يقوم على أربعة مبادئ رئيسية في تقديري، هي: أولاً الانفتاح شرط البقاء. معنى الانفتاح هنا الانفتاح على متغيرات الواقع والاستيعاب الواعي لمقتضيات العصر. ثانياً الابداع شرط التطور فمجرد البقاء في واقع تتغير أحواله بإيقاعات متسارعة وغير مسبوقة هو التخلف بعينه. وبقدر تنوع الأفكار التي ينتجها الإنسان وأصالتها يتمكن الإنسان من السيطرة على مقدرات واقعة. ثالثاً الغد هو الأفضل دائماً؛ لأن الزمن – عبر نظريات التشكل الذاتي – يصبح عنصراً فاعلاً للتشييد والبناء وليس عنصراً للهدم والانحلال. أخيراً، مسؤولية الإنسان الكاملة وغير المنقوصة عن تقرير مصيره.

back to top