خذ وخل: سوق الصين العظيم

نشر في 07-10-2007
آخر تحديث 07-10-2007 | 00:00
 سليمان الفهد * صار من المألوف، وأنت قاطن قاهرة المعز أن تفاجأ، وأنت جالس في المقهى، بمرور شباب يعرضون عليك شراء بضاعة رخيصة جداً، ويضاهي شكلها البضاعة الأوروبية والأميركية! إنهم بائعو ومروجو المنتجات الصينية، الذين قد يستوقفونك في الشارع، خصوصا اذا كنت بمعية زوجتك! زد على ذلك أن الأسواق والمعارض والمحلات والدكاكين والأكشاك و«البسطات»، التي تفترش الأرض، تعرض كلها المصنوعات الصينية! والمسألة لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزته إلى درجة ملاحقة البائعين لك الى مكان سكنك! يرن جرس باب الشقة تفتحه فتجد أمامك شابة صينية عفية تشبه العم «ماو» جاءت هي الأخرى تبيع لك منتجات بلادها في عقر دارك!! والمدهش أنها «ترطن» بعربية مفهومة تفي بمسألة تحريضك على الاستهلاك والتسوق وأنت فاغر فاك دهشة لسوق الصين العظيم، فضلاً عن تجربة الصين المدهشة في التنمية! وسوق الصين العظيم ليس حاضراً في مصر المحروسة فحسب، بل إنه موجود في الأقطار العربية كلها، فضلاً عن اقتحامه أسواق العالم كلها بما فيها الولايات المتحدة الأميركية والمثل الشعبي يقول «الغالي ثمنه فيه»، ومن هنا لك أن تتوقع عيوباً شتى في البضاعة الصينية، لأنها رخيصة جداً، وفي متناول معشر المتسوقين المتسورين عامة، وإذا كان صحيحاً أن الغالي ثمنه فيه، فإنه صحيح أيضا أن الرخيص ثمنه ضائع! ذلك أن عيوب ومثالب المصنوعات الصينية عديدة، يعانيها كل من اقتنى منها سلعة ما، فعلى سبيل المثال لا الحصر: أخرج صديقي المدخن ولّاعته، ثم ولع سيجارته، وأعاد الولاعة إلى جيبه، وقبل أن يمج النفَس الأول شبّت النار في جيبه! وكاد صاحبنا يروح في محرقة اتفاقية «الغات» وقوانين التجارة العالمية! وهي اتفاقية لا علاقة لها بـ«قات» اليمن لسوء حظهم!

* ولا بأس على الحيوان المستهلك في العالم الثالث من مغبة استخدام واستهلاك المنتجات الواردة إليه من كل صوب، ما دامت مسيرة وممارسة الاستهلاك باتت حمى عالمية تنتشر في الناس انتشار النار في الهشيم! وعلى الرغم من العيوب المتنوعة التي تسم وتصم المنتجات الصينية، فإنها ما برحت رائجة، ربما لأن الصين ذاتها تعترف بهذه العيوب، وتسعى إلى إصلاحها، بعكس ما يحدث عندنا في الأقطار العربية، فإذا اشتريت شنطة عربية الصنع، واكتشفت فيها عيباً ما، يستحيل عليك إعادتها للمشتري الذي يضع اللوم على المستهلك، بسبب أو لآخر! أما لو كانت الشنطة صينية الصنع فإن البائع يستبدل لك المعطوبة بأخرى سليمة! والأنكى من ذلك أن كثيرين من التجار والباعة تجدهم يزينون جدران متاجرهم بعبارة «البضاعة المباعة لا ترد»، ظانين بأن المعروضات الصينية تضاهي الصناعات الأوروبية والأميركية في الاتقان والجودة والأمان! ما علينا.

فالشاهد أن سوق الصين العظيم وأد الصناعات العربية التقليدية والعصرية على حد سواء! والذي يثير الشجون والحزن والمشاعر الرومانسية جميعها هو تأثير الصناعة الصينية على الصناعات التقليدية التراثية مثل: النعال النجدية، القصيمية، والدشداشة والقحفية والكوفية الخليجية، وصناعة الأثاث والتزويق، والنحاسيات والفضيات، والنسيج، والجلديات، والمباخر والمسابح وسجادات الصلاة، وكل ما ينطوي تحت اسم صناعة تقليدية! فكل صناعة وطنية لها توأم صيني أرخص منها ثمناً إلى حد يحرض المستهلك العادي على اختيارها!

*منذ عشر سنوات زرت مدينة «أسفي» المغربية لعمل استطلاع لمجلة العربي عن صناعة الخزف والفخار التي تشتهر بها عالمياً، ويزورها السياح لهذا الغرض! وحين التقيت بالمعلم الأول لهذه الصناعة في المملكة المغربية «مولاي أحمد السرغيني» أسرّ لي بأنه متوجس من الميكنة التي اقتحمت مجال صنعته المبدعة المدهشة. وقال في معرض حديثه «لم يعد يزورنا حالياً سوى المهتمين العارفين بقيمة إبداع الفخارية المخلوقة بأنامل المعلم المبدع! والمعنى أن المستهلك لم يعد يحفل إلا بالشكل لا بالنوعية، فمن ذا الذي سيلاحظ ما إذا كانت المزهرية التي تزين وسط قاعة الجلوس -مثلا- يدوية أو صناعية؟! ومن هنا راجت تجارة اللوحات الفنية المقلدة والمزيفة والمستنسخة! وما خفي أنكى وألعن!

والحق أن العبد لله ليس بصدد البكاء على أطلال صناعاتنا التقليدية الجميلة في شتى الأقطار العربية، غاية ما هنالك هو أن تكون استجابتنا لشروط التجارة العالمية فاعلة مبدعة، كما فعلت الصين التي يخبر الجميع كيف كان حالها منذ ستين سنة، وماذا فعلت لتنمية بلادها؟

ويبدو أن السؤال السالف الذكر غير مطروح لدى أصحاب الشأن، ومحصور في مجالس ومنتديات الأطر النخبوية المختصة فقط لاغير! فإذا وصل إلى ذوي الشأن «حفظ» في الأدراج إلى حين «ميسرة» وإلى حين تحج البقر على قرونها»!

وإذا شاء لي القارئ تبسيط القضية التي نحن بصددها، فإني أزعم بأن الصينيين احتفلوا -بداية- ببناء الإنسان وتفعيل قدراته الإبداعية الكامنة فيه، لأن الله سبحانه قال في محكم كتابه الكريم «إن الله لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» وهو قانون رباني إنساني للأمم والنحل والأديان كلها، وأزعم بأن الصين تأسّت به بمعنى من المعاني،

ذلك أن الإنسان هو محور المشكلة في عملية التنمية، وبهذا المعنى يقول العالم المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، «إن تحويل سلطة سياسية من أيد إلى أخرى، وإعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة، وتغيير العملة، وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت، إلا أن التغييرات هذه جميعا تصبح مجرد سحر للأبصار، ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه «مالك بن نبي: بين الرشاد والتيه ص 51).

* إن عامة العرب يستهلكون البضاعة الصينية كل يوم، ويلعنونها في الليل والنهار للأسباب التي ذكرتها آنفاً. ويكتفون بموقف الذم واستجابة الشكوى المريرة من جراء توقف المصانع العربية عن الإنتاج والإبداع!.

وصار الحل السحري الوحيد الذي بحوزة الحكومات العربية يكمن في الخصخصة! ولا أعرف كيف ستكون الخصخصة خلاصاً فاعلاً، إذا كان البشر والعدة والعتاد غير مؤهلين لمجابهة تحديات العولمة بكل تجلياتها في شتى مناحي الإنتاج وعمارة الأرض والإبداع؟!

اعترف -صراحة- بأني جاهل مكعب في الاقتصاد والسياسة. لكني مقهور ومبهور بسوق الصين العظيم، ولا بأس عليه إذا نعته بعض منا: بسوء الصين العظيم!.

back to top