معاهدة لشبونة 2007 فرصة الاتحاد الأوروبي الأخيرة

نشر في 24-12-2007
آخر تحديث 24-12-2007 | 00:00
 د. عمرو حمزاوي

التوقيع على معاهدة لشبونة يمثل نقلة نوعية حقيقية على طريق عصرنة الاتحاد الأوروبي وصبغ مزيد من الشرعية على وجوده السياسي، وبكل تأكيد سيستمر سيل الانتقادات الموجهة إلى المعاهدة في الانهمار من كل حدب وصوب، لاسيما في الدول الصغيرة والوسطى الأعضاء في الاتحاد التي ترى في إلغاء قاعدة القرار بالإجماع مقدمة لتجاهل مصالحها وخصوصياتها التاريخية.

أخيراً نجحت دول الاتحاد الأوروبي خلال القمة الأخيرة في العاصمة البرتغالية لشبونة في التوصل إلى معاهدة بديلة لمشروع دستور الاتحاد الذي رفض في سلسلة من الاستفتاءات الشعبية خلال العامين الماضيين. جوهر معاهدة لشبونة 2007 هو صياغة إجابات حول ثلاث إشكاليات رئيسة: خلق صورة إيجابية عن مشروع الوحدة الأوروبية، وإعادة تنظيم الحياة السياسية والمجال السياسي الأوروبي بصورة تتعامل مع الزيادة المستمرة في عدد أعضاء الاتحاد، وتحويل الاتحاد الأوروبي إلى قوة استقرار داخل القارة وخارجها ونموذج ديموقراطي معاصر يقتضى به في النظام العالمي الجديد.

فقد أضحى مبدأ اتخاذ القرار بالإجماع في مجلس رؤساء دول وحكومات الاتحاد وهو ما استقرت عليه الدول الأعضاء منذ البدايات الأولى في عام 1957 (اتفاق روما المؤسس للجماعة الاقتصادية الأوروبية) بمنزلة عائق رئيسي أمام الإدارة العقلانية لعملية الاندماج في السنوات الأخيرة. الأهم من ذلك أن قناعة عامة سادت في عدد من الدول الأوروبية خاصة ألمانيا وفرنسا أن الإدارة المتعثرة للاتحاد الأوروبي أصبحت أقرب إلى الاستحالة مع دخول دول أوروبا الشرقية والبلطيق، وعجز الاتحاد عن التخلي ولو بصورة جزئية عن مبدأ الإجماع، وتطوير آليات تأخذ في الاعتبار اختلاف الأوزان النسبية للأعضاء. فمن الصعب جملة وتفصيلاً تصور أن تتساوى بريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا بأهميتها التاريخية والاستراتيجية مع جزر صغيرة كمالطة وقبرص أو مع دول قليلة السكان مثل ليتوانيا ولاتفيا بمنطق صوت واحد وحق فيتو لكل دولة، وشكل كذلك استمرار غياب جسد سياسي يمثل الاتحاد الأوروبي بصورة سيادية ويعبر عن مساحة المشترك العام قوة دفع واضحة نحو السعي إلى التطوير، فالتناوب نصف السنوي بين الأعضاء على رئاسة مجلس رؤساء دول وحكومات الاتحاد أصبح من وجهة نظر الكثيرين مصدراً لعدم الاستقرار وغلبة الأهواء الوطنية الضيقة على المصالح الأوروبية.

هنا تدفع معاهدة لشبونة بأفكار تنظيمية جديدة إلى الواجهة أهمها توزيع الاختصاصات بين الاتحاد والأعضاء على نحو يفرق بين اختصاصات أصيلة للاتحاد (السياسة النقدية وقوانين المنافسة والتجارة الخارجية وقانون العقوبات) وأخرى مشتركة مع الدول (مثل المواصلات والهجرة وقوانين اللجوء) وثالثة تنفرد بها الأخيرة (الثقافة والتعليم والرياضة). تنص المعاهدة أيضاً على تطوير هيكل اتخاذ القرار الجماعي بدءاً من 2009 بجعل قرارات مجلس رؤساء الدول والحكومات ومجالس الوزراء في مجالات اختصاص الاتحاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قرارات أغلبية على أساس قاعدة الوزن التصويتي النسبي وفقاً لعدد سكان الدول الأعضاء باستثناء قضايا النظم الضريبية والسياسة الخارجية والأمنية المشتركة، التي تعمل بها قاعدة الإجماع وحق الفيتو.

استحدث كذلك منصب رئيس الاتحاد ومنحت سلطة انتخابه لمدة عامين ونصف العام قابلة للتجديد مرة واحدة لمجلس رؤساء الدول والحكومات ومنصب وزير خارجية الاتحاد المسؤول عن السياسة الخارجية والأمنية المشتركة وتعيينه نائباً لرئيس المفوضية الأوروبية ورئيساً لمجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء على نحو يضمن وجوده في الهيكل الإداري والسياسي للاتحاد. مثل هذه الاقتراحات تتشابه جزئياً مع ما ورد في مشروع دستور الاتحاد 2004، إلا أنها تتجاوز الأخير خصوصاً في ما يتعلق بإقرار مبدأ الأغلبية والتوافق حول قضية الأوزان التصويتية النسبية وإعطاء رئيس الاتحاد ووزير خارجيته صلاحيات حقيقة.

يمثل التوقيع على معاهدة لشبونة نقلة نوعية حقيقية على طريق عصرنة الاتحاد الأوروبي وصبغ مزيد من الشرعية على وجوده السياسي، نعم وبكل تأكيد سيستمر سيل الانتقادات الموجهة إلى المعاهدة في الانهمار من كل حدب وصوب، خاصة في الدول الصغيرة والوسطى الأعضاء في الاتحاد التي ترى في إلغاء قاعدة القرار بالإجماع مقدمة لتجاهل مصالحها وخصوصياتها التاريخية وفي تغيير بنية المفوضية انتفاء لنفوذها في المؤسسات الأوروبية وبداية لسيطرة الأقوى على مقدرات القارة. إلا أن قناعة الأربعة الكبار ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا القاضية بأن تطوير هيكل صنع القرار في الاتحاد هو السبيل الوحيد نحو تعامل فعال مع تحديات العضوية الدائمة التوسع فرضت نفسها توافقاً واضحاً أصبح من الصعب تجاهله. وهو ما يدفعني إلى توقع اعتماد معاهدة لشبونة شعبياً من دون مفاجآت كبيرة.

* كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي-واشنطن

back to top