تحليل إخباري ثقافة ازدراء العلم ... وتعظيم الشهادات أهل العلم يشقون بعلمهم... وأهل الجهالة بالحفاوة ينعمون
يؤكد احد الشعراء ان «العلم يبني بيوتا لا عماد لها ....والجهل يهدم بيت العز والكرم»، ولكنه لا يدري ان الكثيرين من ابناء ديرتنا لا يدركون ان الجهل يشكل خطورة كبيرة على مجتمعنا ومستقبل دولتنا، اذ ان ثقافتهم السلبية لا ترى في العلم والمعرفة أي قيمة؛ فكل ما يهمهم الشهادات «الملفقة» التي تمنحهم حكومتنا بموجبها المسميات الإدارية والمراكز القيادية من دون اهتمامها بمعرفتهم العلمية وتحصيلهم العلمي.دفعني خبر نشر في صحفنا المحلية أخيرا يفيد بتكريم الاتحاد الوطني لطلبة الكويت- فرع المملكة المتحدة للنائب الدكتور علي العمير ووكيلة وزارة التعليم العالي د.رشا الصباح وذلك «لتسخيرهما كل الإنجازات لخدمة الدارسين في الخارج»، دفعني الى أن اظهر بعض الامور المرتبطة بما سبق أن كتبته تحت عنوان: «امتهان للعلم والمعرفة والمؤسسات التعليمية... فلا صوت يعلو فوق صوت الشهادة المعلبة».
الثقافة السلبيةواذ جاء تكريم الدكتور والدكتورة على خلفية مساعيهما لتخفيض شروط القبول في الجامعات البريطانية من خمس نجوم إلى اربع (وربما تستمر جهود الدكتورين كي لا يشترط أي مستوى للجامعات التي يقبل فيها الطالب الكويتي)، فإننا نبين في هذا المقام ان الثقافة السلبية المتفشية في مجتمعنا لا ترى في العلم والمعرفة أي قيمة، بينما للشهادات والمسميات الإدارية قيمة اجتماعية وسياسية بل و«مالية» أيضاً، فالمهم هو الحصول على الشهادة من أي جامعة أو «جويمعة» أو حتى «دكان»، خصوصا ان وزارة التعليم العالي لم تعد تدقق على شروط قبول الشهادات ومعادلتها، كما ان الوزارات والمؤسسات الحكومية لا يعنيها كثيراً التخصص والقسم العملي والجامعة ومستوى التحصيل العلمي الذي يصل إليه الدارس، فكل ما يعنيها هو الشهادة، لا أكثر ولا اقل، حيث بلغت نسبة الموظفين الكويتيين في الدوائر الحكومية أكثر من 94%، لان الوظيفة الحكومية لا تتطلب معرفة علمية خاصة بمجالها، ولذلك أصبح الحصول على شهادة أعلى بأي طريقة هدفا للأكثرية لانها تساهم في ترقيتهم الى مناصب أعلى، وقد تصل الترقية الى درجة وزير! المستوى الاجتماعيواذا ما عرجنا على انعكاس ذلك على المستوى الاجتماعي فاننا نرى انه كلما ارتفع مسمى الشهادة ارتفعت قيمة صاحبها اجتماعيا واصبح يتصدر رأس الديوان بدعوات متكررة من رواد الدواوين «تفضل دكتور تفضل داخل داخل...»، وبالطبع لا أحد يسأل عن التحصيل العلمي لصاحب الشهادة وعن الإضافة العلمية التي قدمها بعد حصوله عليها، لان هذا الامر لا أهمية له إطلاقاً في ثقافة مجتمعنا الاستهلاكي. معادلة الشهادةوبينما اصبحت الشهادة هي الأهم وهي الأصل في وقتنا الحالي فان عددا كبيرا من غير الحاصلين على شهادات جامعية يسعون جاهدين الى الحصول عليها وبأي طريقة ومن أي مكان، ولم لا ما دامت وزارة التعليم تقوم بمعادلة هذه الشهادة، ثم يتم تعديل الوضع الوظيفي الى الدرجة الرابعة من درجات السلم الوظيفي للحاصل على البكالوريوس، هذا اذا لم يحصل على «واسطة» من احد المتنفذين من أجل تعيينه في دائرة تم إقرار الكادر الخاص لموظفيها. أما من يحصل على شهادة الدكتوراه -الملفقة- فانه يسعى الى تسويق نفسه للتدريس في الجامعة أو التعليم التطبيقي وربما يسعى الى الترقية السريعة، وأشير هنا الى أن كثيرا من كبار موظفي الجهاز الحكومي تمكنوا من الحصول على درجة الدكتوراه وهم يتولون مهام كبيرة جداً في إدارة مؤسسات علمية أو يعملون وكلاء وزارات، ولم يتساءل أحد كيف تمكن هؤلاء من الحصول على الشهادة العليا من دون حصولهم على إجازة علمية أو بعثة، والطريف في هذا الصدد أن أحد هؤلاء الحاصلين على الدكتوراه قرر منع أي من العاملين في الهيئة التي كان يديرها من الحصول على الدكتوراه بنفس الاسلوب! تدني التعليم أما مؤسسات التعليم العالي، سواء جامعة الكويت أو هيئة التعليم التطبيقي، فأصبح وضعها يرثى له، فمخرجات التعليم العام لا ترقى الى مستوى التعليم الجامعي، وفي كل عام يتدنى المستوى أكثر فأكثر، فكلما تخرج «مدرسون» جدد وتولوا التدريس تدنى المستوى أكثر، وذلك لأنهم نتاج انهيار النموذج الأصيل للتعلم والمعرفة ونتاج للشهادات الملفقة. واذا ما عدنا قليلا الى الوراء، اي قبل الحصول على الشهادة العليا، فإننا نرجع جزءا من هذا الفساد العلمي الى الاساس في التعليم، حيث يلاحظ ان الغش أصبح حقاً مكتسباً للطالب لدرجة أن أي مدرس يقوم بضبط حالات الغش ينظر اليه على أنه إنسان قاس ولديه عداوة شخصية مع الطالب «الغشاش»، أما ما يسمى بالوسائل التعليمية والأبحاث فأصبحت مهنة من لا مهنة له وامتلأ البلد بمكاتب «التصوير»، وامتلأت الصحف بإعلانات عن «توفير أسئلة وإجابات نموذجية واستعداد تام للمساعدة في كل الاحتياجات التعليمية». الدروس الخصوصيةوفي وسط هذا الانحدار التعليمي في مستوى مخرجاتنا يقع جزء من المسؤولية في ذلك على التراخي في عملية التصدي للدروس الخصوصية التي أصبحت آفة يعلم بها الجميع ولا يحركون ساكنا تجاهها، اذ ان استمرارها يعني مزيداً من ازدراء التعليم لأن أغلبية هؤلاء المدرسين الخصوصيين هم أنفسهم مدرسون في مدارس وزارة التربية، ويتعمد أغلبهم التقصير في عمله في الفصل الدراسي كي يلجأ الدارسون إليه في الدرس الخصوصي، وبعضهم يقدم خدمات أكثر (أسئلة الاختبار وإجاباتها النموذجية) لمن يدفع أكثر. وأياً كانت الأسباب الفرعية لانتشار الظواهر السلبية في النظام التعليمي، فإنني أظن أن الجانب الأكثر أهمية يتمثل في الموقف «المجتمعي» من التعليم والمعرفة، فلا أحد يطلب (عند التقدم لشغل الوظائف الحكومية تحديداً) توافر أي شرط او قدر من تلك المعرفة للحصول على الفرصة الوظيفية لا في التوظيف ولا في الترقيات، فقانون الخدمة المدنية يحدد الدرجة الوظيفية بالشهادة، فالحاصل على شهادة الثانوية العامة يعين في الدرجة السابعة والحاصل على الشهادة الجامعية يعين في الدرجة الرابعة ويعين على الدرجة الخامسة خريج الدبلوم.الدرجة الرابعةبعبارة أخرى ليس ثمة بند ينص على تمييز تخصص يحتاج إليه سوق العمل عن ذاك التخصص الذي يعج السوق به من كثرته، وليس هناك ما يشير إلى النظر في سمعة القسم العلمي والجامعة التي حصل منها المتقدم لشغل الوظيفة على الشهادة وليس هناك من يسأل عن مستوى التحصيل العلمي في مجال التخصص لمعرفة ما إذا كانت الشهادة تعكس تحصيلاً وقدرات في مجال التخصص أم إنها تندرج تحت مسمى الشهادة لا أكثر. المهم: هات شهادة جامعية من اي جامعة وفي أي تخصص وبأي تقدير تحصل على الدرجة الرابعة! أمر خطيروهذا في ظني أمر خطير دفع الأغلبية العظمى إلى التسابق من أجل الحصول على الشهادة كي يحدد بعدها الدرجة الوظيفية والمسمى وربما المكانة الاجتماعية أيضاً، لذا أرى ضرورة تعديل القانون بما يخدم سوق العمل سواء في القطاع الحكومي أو الخاص كأن تعطى التخصصات النادرة التي لا يسجل فيها الدارسون الكويتيون أفضلية على غيرها من التخصصات كمنحها الدرجة الثالثة للتشجيع بينما تتساوى التخصصات التي لا حاجة إليها بغيرها من الشهادات ذات المستوى الأقل مثل الدبلوم من حيث الدرجة الوظيفية، وبذلك ومع توجيه حملة للتوعية المجتمعية قد نرى الدارسين الكويتيين يتهافتون على تلك التخصصات خلال سنوات. التخصصات النادرةوإذا أردنا أن نعي مدى تفشي «ازدرائنا» للعلم وتقديرنا للشهادات في المجتمع، فعلينا أن ننظر الى أصحاب التخصصات النادرة، ولنتخذ من الطب مثالا، إذ يتحدث الناس مع طبيب باحترام وتقدير بسبب ما يثبته من قدرات يتميز بها عن طبيب آخر يفتقر إليها، بينما يتحدثون في كل الحالات الاخرى بقدر عال من الكياسة والإعجاب والتقدير من دون النظر إلى قدرات اصحابها إن هم تولوا مناصب ادارية عالية في وزاراتهم!.... وختاما فإن أهل العلم لدينا يشقون بعلمهم، وأهل الجهالة بالحفاوة ينعمون!