يونيو... وظلاله الثقيلة

نشر في 14-06-2007
آخر تحديث 14-06-2007 | 00:00
 محمد سليمان صار لدينا يونيو الأول والثاني والثاني عشر، فتواضعت أحلامنا للغاية، ولم نعد نفكر أو حتى نحلم بوطن يمتد من المحيط إلى الخليج ...صرنا فقط نحلم بعراق موحد وبلبنان متماسك وبقايا قوة تعيننا على الخروج من دوائر التشظي.

لم أر عرضاً عسكرياً منذ ربع قرن، أي بعد اغتيال الرئيس السادات عام 1981 في آخر وأشهر هذه العروض، و هو الاغتيال الذي نبه الخبثاء والكبار إلى ضرورة الحذر والاحتماء بالعربات المصفحة وإلى أن هذه العروض ليست دائما مأمونة العواقب، فأصدروا قراراً سرياً بإلغائها وبحرماني من متعة ظللت على مدى سنوات أسعى إليها، وأزهو بها.

● يوليو كان أعظم شهور العام وأسخاها بسبب أعياد الثورة والاحتفالات السنوية بها التي كانت تتضمن الأناشيد والأغاني الوطنية، خطب الرئيس عبد الناصر ثم العروض العسكرية التي كنت مغرماً بها ...مباراة سنوية هائلة بين كبار الشعراء والملحنين والمطربين كانت تمنحنا في النهاية عدداً من الأناشيد والأغاني الجديدة التي كنا نحفظها ونرددها على مدار العام ...وكانت خطب عبد الناصر تحشو العيون بالبريق والقلوب بالأمل وتجعلك تزهو بنفسك أحيانا وبالوطن دائماً، لكن العرض العسكري كان الأهم. وكنت أسافر من قريتي إلى القاهرة، رغم حر يوليو وقيظه، كي أرى وأحصي الأسلحة الحديثة التي امتلكها جيشنا ثم أعود إلى القرية سعيداً ومطمئناً على أمن الوطن ومستقبلنا؛ وكانت الدولة في ذلك الزمن تتيح للمواطنين السفر مجانا أو بأجر رمزي للمشاركة في هذه الاحتفالات.

كنت أتهم سكان القاهرة- قبل أن أصبح واحدا منهم بعد التحاقي بجامعتها عام 1964 بضعف الحس الوطني، وبتبلد المشاعر لأنهم كانوا يمارسون حياتهم كالمعتاد و لا يبالون مثلي بالعروض العسكرية ولا ينشغلون بالأناشيد والأغاني، وكان التلفزيون الذي لم تعرفه القرى في ذلك الوقت، يتيح لهم متابعة كل شيء وهم في المنازل و المقاهي.

● في مايو 1967 بدأت نذر الحرب في الظهور ..الإذاعات والصحف كانت تقود وتوجه وترسم ملامح ما بعد النصر، وكنت مطمئناً وواثقاً من قوتنا وقدرتنا على ردع إسرائيل والانتصار عليها واستخلاص حقوق الفلسطينين .. الصواريخ والأسلحة التي رأيتها في العروض العسكرية، وتصريحات عبد الناصر وكبار القادة عمقت هذه الثقة ...في أواخر مايو كنا قد انتصرنا قبل نشوب الحرب ثم كان زلزال يونيو الذي دمر وغيّر وأزاح الأقنعة والأكاذيب وأطاح بأشياء كثيرة، في مقدمها ثقتنا بحكامنا وبأجهزة الإعلام وبأنفسنا وبمشاريع الصبا وأحلامه، وأطاح أيضا بيوليو الذي توارى بأناشيده وعروضه العسكرية وباحتفالاته وصار امتداداً ساخناً ليونيو.

وهكذا تراكمت الخسائر وتشابهت شهور العام، باستثناء يونيو الذي صار حائط مبكى ومناسبة لتذكر خطايا عبد الناصر الذي ظل، بعد الهزيمة وحتى وفاته، مشغولاً بجمع الصف وصد التفكك وإعادة بناء الجيش وتسليحه وشغله بعروض عسكرية حية على خط المواجهة وعبر قناة السويس لتدريبه على القتال والثأر ولاستعادة احترام الشعب لجنوده الذين يتوارون خوفاً من اعتداء الناس عليهم في الشوارع.

● بعد حرب أكتوبر 1973، عادت الاحتفالات والأناشيد والعروض العسكرية لكننا كنا قد تغيرنا لم نعد نثق، و لم نعد قادرين على النسيان أو الاحتفال بنصر لم يمح آثار يونيو، و لم تُسترد به الحقوق ثم انتهت الاحتفالات والعروض عام 1981 باغتيال السادات في آخر وأشهر عرض عسكري، ربما في تاريخنا الحديث، لأنه كان آخر عرض نظمته الدولة، وانتهى بقتل رئيسها، فضلا عن كونه أيضاً أول عرض عسكري ناجح للتشدد والتطرف والإرهاب، وعلى مدى ربع قرن تتابعت عروض التطرف واجتاح الإرهاب بلادنا وصارت له جيوشه الخاصة، الصغيرة والمدربة والمنتشرة هنا وهناك، ثم اتسعت الظاهرة في الأعوام الأخيرة، وراحت الأحزاب والمنظمات والطوائف تقيم عروضها وتشكل جيوشها الخاصة وتعلن الحرب على الوطن والتراث والتاريخ.

وألقى يونيو بظلاله الثقيلة على شهور العام، وصار لدينا يونيو الأول والثاني والثاني عشر، فتواضعت أحلامنا للغاية، ولم نعد نفكر أو حتى نحلم بوطن يمتد من المحيط إلى الخليج .. صرنا فقط نحلم بعراق موحد وبلبنان متماسك وبقايا قوة تعيننا على الخروج من دوائر التشظي.

 

كاتب وشاعر مصري

back to top