هل يفجِّر مخيَّم برج البراجنة حرب نهر بارد جديدة؟

نشر في 13-11-2007 | 00:00
آخر تحديث 13-11-2007 | 00:00

منطقة «برج البراجنة» موجودة (بالاسم) في لبنان، لكن مع وجود ما يشبه الدويلات في قلب الدولة اللبنانية باتت المنطقة كدويلة في ذاتها محسوبة أمنياً وإدارياً على حزب الله، وفي قلبها مخيم فلسطيني على اسمها يتعلّم فيه الصغير كيف يفكّ مشط الرشاش قبل أن يتعلّم فكّ الحروف!

المخيم الفلسطيني أثار بعد كلام رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط عن «تكرار تجربة نهر البارد مرة ثانية في مخيم برج البراجنة» الكثير من القلق، واستدعى بعد كلام الأمين العام للجبهة الشعبية -القيادة العامة- أحمد جبريل عن مؤامرة «أميركية- صهيونية- فلسطينية (ينشط فيها مسؤول حركة فتح في بيروت العميد خالد عارف) هدفها توريط الفلسطينيين وحزب الله والجيش اللبناني» الكثير من التساؤلات... فما حقيقة الوضع في المخيّم؟ وكيف يعيش مخيم البرج تحت وطأة «القيل والقال»؟ وماذا عن مظاهر التسلّح والمسلحين فيه؟ وهل يشعر من يزور المخيم فعلاً أننا في لبنان أمام حرب «نهر بارد» جديدة؟

رائحة نتنة تفوح عند مدخل المخيم، لا وجود لأي مظاهر عسكرية شرعية لبنانية عند المدخل المفتوح على أسرار دفينة، نعبر، مياه آسنة تلطم أقدامنا ووحولا تخفي آثار زفت باخ بفعل عوامل الطبيعة. مكتب حركة «فتح» عند المدخل. مكتب الجبهة الشعبية- القيادة العامة - يبعد أقل من مئة متر عنه. صوت أبو عمار (الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات) يهدر في شارع متفرع من الشارع الرئيسي. شعارات لا تحصى ترتفع على جدران ملطخة بمئة لون ولون. يضم المخيّم ثلاثة عشر تنظيماً فلسطينياً مسلحاً ولكلّ تنظيم أهدافه ومشاريعه وسلاحه وعناصره ومكاتبه وشعاراته... يكاد لا يخلو جدار من بقايا خربشات وصور علقتها التنظيمات تتغيّر مع تغيّر المناسبات والظروف والأهداف.

ماذا في الأهداف الجديدة وماذا عن مظاهر المخيم الجديدة؟ أبو عماد رافع، المسؤول عن الجبهة الشعبية -القيادة العامة- في لبنان، مشغول باستمرار، تراه يدخل الى اجتماع تارة ويخرج من آخر طوراً، «فالتطورات كثيرة والكذب، وفق قوله، كثير» جازماً أن «التفكير السلفي الجهادي معدوم في برج البراجنة».

قد يكون بعض كلام رافع صحيحاً، فلا أحد قادر على التأكد من أي معلومة تُروى حتى لو أقسم قائلها اليمين! فماذا في صحة ما قال أحمد جبريل نفسه؟ وهل كلام وليد جنبلاط يمت الى الحقيقة بصلة؟ وبماذا يجيب مسؤول حركة «فتح» في بيروت خالد عارف على كلام جبريل؟ يكتفي عارف بالقول إن «جبريل مشعوذ، قال ما لا أساس له من الصحة قطعياً وهو لا يستحق الردّ في التفاصيل».

قد يكون كلام جبريل عار عن الصحة، ولكن في تلك الحال ما هي الدوافع التي جعلته يقول هذا الكلام؟ ولماذا قال جنبلاط قبله ما قال؟ يجيب عارف «ما قاله جبريل لا يلقى قبولاً من أيّ طرف فلسطيني أو لبناني أو حتى من تنظيمه بالذات، وللفصائل كلّها موقف سلبيّ من كلام كهذا. لم يحصل في تاريخ ثقافتنا الفلسطينية أن وصلت الامور الى هذا الدرك... ولولا حرصنا على المشروع الوطني الفلسطيني والسلم الأهلي لكان ردنا أقسى بكثير على هذا المعتوه، لكنّنا قرّرنا أن نترك مصيره لشعبنا الفلسطيني الذي يعرف جيداً أنّ كل إناء ينضح بما فيه».

عارف يتحدث عن «أحلام سقطت عند جبريل الذي كان يظن انه مهيمن على مخيمات بيروت ويعيش أحلاما قديمة». ماذا عمّا قاله جنبلاط؟ يجيب «شتان بين ما قاله المشعوذ (أحمد جبريل) ووليد جنبلاط. فالثاني حذّر في حين قدم الاول تقارير كاذبة، ونحن طالبنا الدولة اللبنانية أن تتحقق من المعلومات التي ذكرها كلّها. على أيّ حال ثمّة من سرّب معلومات لجنبلاط وعباس زكي استوضح الموضوع منه».

بعيداً عن الأكاذيب السود والبيض، كيف يعيش مخيم برج البراجنة؟

صور أبو جهاد (أحمد جبريل) تتوزع في الأرجاء مذيلة بشعار «القائد الرمز». لكل فلسطيني في الشتات رمز. صور الرئيس السوري بشار الأسد ملصقة على جدران مكاتب الجبهة الشعبية، والمسدسات تتحول الى لعبة بين ايادي الصغار المنقسمين بدورهم الى فريقين: جبهة شعبية- قيادة عامة و«حراميي». يتوجّه ابو عماد رافع الى اجتماع في حين ندخل نحن مركز الجبهة الشعبية. الشتائم تنهمر سيولاً في المركز مصيبة بسهامها النائب وليد جنبلاط وقائد القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع مع حرص دائم على وصف الأول بـ«المتعامل» والثاني «بالمجرم». الحقد المتغلغل في النفوس يبدو قوياً.

سلاح لمحاربة العدو فقط!

لماذا كل هذا الحقد من فلسطينيي الجبهة الشعبية تحديداً على زعيمين لبنانيين؟ لماذا سلاح الجبهة الشعبية خارج المخيمات؟ وكيف نقتنع فعلا أن كلام أحمد جبريل عن مشروع يُعدّ لضرب حزب الله في الضاحية الجنوبية انطلاقا من مخيمي برج البراجنة وشاتيلا صحيح؟ الأجوبة على لسان هؤلاء الفلسطينيين المنتمين الى الجبهة الشعبية- القيادة العامة تتكرّر نسخة طبق الأصل، غير مقنعة، وكأنها أسطوانة أجوبة واحدة حفظها الجميع! كلّهم يدافعون عن سلاح جبهتهم بلسان واحد «سلاحنا داخل المخيمات وخارجها له اتجاه واحد: تحرير فلسطين وقتال العدو، وسيكون في خدمة لبنان إذا اقتضت الحاجة».

لكن هل وجود سلاح الجبهة الشعبية في قلب منطقة الناعمة الساحلية التي يفترض أن تكون آمنة هو لتحرير فلسطين؟ ألا تبعد الناعمة عن فلسطين كثيرا؟ يجيب مصدر أمني في الجبهة «لا أمان لنا في لبنان. فليعطنا اللبنانيون حقوقنا وضمانات حقيقية ويشعرونا بأمان قبل أن يطالبونا بسلاحنا. سنحافظ على السلاح الفلسطيني خارج المخيمات حتى يشعر الفلسطينيون أنّهم ليسوا يتامى هنا. يرقى عمر تنظيمنا الى 45 عاما ولن يجرّدنا أحد من سلاحنا».

يصرّ الفلسطينيون على التذكير، في كل مرة يُسألون فيها عمّا يحكى عن برج البراجنة، أنّ السكان يعيشون «من قلّة الموت» وأن 72 مهنة محرّمة على الفلسطينيين في لبنان، ما يجعل أوضاع الجالية السريلانكية في ظروف أفضل منهم بكثير. ويتهم فلسطينيو المخيم جنبلاط بالتحضير لفتنة في برج البراجنة حين سافر الى واشنطن والتقى «على ذمتهم» باراك «لقاء لم يكن للعب الشدّة أو التحدّث عن مغامرات عاطفية» يؤكدون بابتسامة الظافر بالحقيقة الدفينة.

جغرافيا وأنماط

أنشئ مخيم برج البراجنة عام 1948 على مساحة مئة وأربعة دونمات وهو أكبر المخيمات في العاصمة اللبنانية. جغرافياً، يقع على طريق المطار الرئيسي ويجاوره شيعة الاحياء الجنوبية. وتعيش في المخيم أسر كثيرة من بلدة ترشيحا في شمال فلسطين تحديداً، وتشكل تلك الأسر نحو أربعين في المئة من سكان المخيم. الكثافة البشرية كبيرة (نحو خمسة عشر ألف نسمة)، والولادات كثيرة ومشهد الاطفال الذين يجولون في الأزقة يشي بيوم قريب لن يعود فيه هذا المخيم (كما هي حال بقية المخيمات) قادراً على استيعاب ناسه.

نمشي في الأرجاء ونقرأ «شهداء الأقصى ليسوا يتامى». عبور المخيم من دون «مرشد أمني» خطير والتحذير يبقى واجباً: ممنوع تصوير المراكز العسكرية. المسلحّون في كلّ مكان. الرشاشات «تتشقلب» في الأيادي بسهولة أو تستريح على الأكتاف. روائح المعسّل تفوح قوية. ثلاثة أرباع الشباب يمضون الأيام وهم ينفثون التنباك ويدردشون في السياسة ويوالون هذا التنظيم أو ذاك... «أبا عمار ستبقى كوفيتك هوية الأحرار والشرفاء» تذيّل صورة عملاقة لياسر عرفات. عبارات كثيرة مدونة على الجدران تتحدث عن «الوحدة» عدونا يريد لنا الفرقة والفتنة ورسولنا الكريم صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلّم يريد لنا الوحدة. نقول لكل شعبنا الفلسطيني في الشتات وفي فلسطين المحتلة: اتحدوا اتحدوا اتحدوا...

هل الفلسطينيون متحدون؟ هل مخيم برج البراجنة في منأى عن تجربة نهر بارد جديدة؟ الفلسطينيون، قلّه في مخيم برج البراجنة، للأسف، غير متحدين وإن أصروا على قول العكس. ولعلّ تلك الهمسات التي يطلقها فلسطينيون تابعون الى هذا التنظيم أو ذاك عن التنظيمات الاخرى دليل كافٍ عن انقسام واضح المعالم لا لبس فيه.

يدلّنا فلسطيني من الجبهة الشعبية، القيادة العامة خفيةً، على مركز فتح الانتفاضة وعددهم في برج البراجنة يزيد على ثلاثمئة عنصر، مردداً «لديهم سلاح هائل لا مثيل له في لبنان ومدافع هاون في أطراف المخيم». يحدثنا فلسطيني آخر من حركة فتح، يسكن في حيّ «كويكات» في البرج، بسرية تامة عن حركة حماس التي لديها خطط أبعد من حدود المخيم!

وفاق واتحاد

يكفي أن نذكر الاتهامات المتبادلة بين امين سر حركة فتح في لبنان «اللواء» سلطان ابو العينين والامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة أحمد جبريل لنقف على بعد «الوفاق الفسلطيني الحقيقي». فقد حمل ابو العينين بشدة منذ ايام في احتفال لمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل عرفات في مخيم الرشيدية على جبريل واصفاً اياه بالمشعوذ ومشبهاً اياه بـ«العبسي الجديد» داعياً حركة «أمل» و«حزب الله» الى القيام بجولة في مخيمات بيروت للوقوف عن كثب على «تحريض جبريل الرخيص» من خلال قوله إنّ 500 مقاتل من فتح تمركزوا في مخيمات بيروت إدعاء يرى فيه ابو العينين دعوة صريحة الى فتنة فلسطينية. واتهم ابو العينين بعض الانقلابيين على العمل على تشريد الشعب الفلسطيني «وتوسّل محادثة رجل في المخابرات الاسرائيلية».

ماذا عن حركة «حماس»؟ ما رأيها في الكلام عن وجود عناصر تنوي افتعال مشاكل في المخيم؟ يجيب المسؤول السياسي لحماس في بيروت أبو العبد مشهور «انّ كل كلام عن برج البراجنة عار عن الصحة على الاطلاق ولا ندري دوافعه الحقيقية. المخيّم مستقر ويجب ألا يستخدم كورقةٍ في أيّ صراع. فنحن مع السلم الأهلي ومع لبنان القوي والمستقرّ الذي يقف مع القضية الفلسطينية» ويضيف «يشهد برج البراجنة حالة وفاقية بين الفصائل، ستُحبط حكماً مساعي أيّ جهة تريد العبث في أمنه!».

الحالة الوفاقية التي يسهبون بالتحدث عنها في مخيم برج البراجنة يضع عليها من يسرح في جنباته علامة استفهام بسهولة فائقة، فالفلسطينيون، إن حاولوا إقناع الآخرين أنهم متحدون ومنضوون في لجنة شعبية واحدة، يتوزعون عملياً الى ثلاثة عشر فصيلاً «يتناتش» كلّ منها قرار الأمن العسكري، ويملك كلّ منها سلاحاً خاصاً بها يبدأ بالرشاش ولا ينتهي عند حدود مدفعية الهاون. وما من أمر بالتالي قادر على إقناع القلقين بأنه لا شيء يعدّ في مخيم برج البراجنة المفتوح على الضاحية الجنوبية ومنها على كل لبنان.

وإذا كان امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله قد جزم «أنّ لا حرب في المخيمات»، فإن مصدراً في الحزب لم ينف حدوث اشكالات فردية بين سكان المخيم وسكان الجوار» مردداً «أن الحزب لن ينزلق الى اي مواجهة مع الفلسطينيين، وهو ينوي تفعيل آليات التعاون والتنسيق مع الفصائل الفلسطينية ووضع رؤية مشتركة الى المستقبل».

ماذا سيحدث؟ هل على اللبنانيين أن ينتظروا مرة أخرى ما قد تؤول اليه التحذيرات؟ لا يجد من يدخل الى مخيم برج البراجنة ويخرج منه أي عنصر أمني شرعي لبناني يسأل أو يستفهم أو يرصد، أقلّه كما يحصل في مناطق لبنانية صرف لا تحمل كلّ هذا اللغط الذي يدور في برج البراجنة، فهل هذا جائز؟ يشعر المرء وكأنّ الدولة اللبنانية تتعامل مع برج البراجنة على أنها منطقة نفوذ حزب الله. وحزب الله يبدو مطمئنا الى مخيم برج البراجنة وسكانه ويتحدث عن وضع آليات مشتركة مع الفلسطينيين بمعزل عن الدولة اللبنانية! والفلسطينيون الذين يكثرون في مخيمهم من نشر شعارات النصر الإلهي وصور أمين عام حزب الله، يبدون مطمئنين، أقله علناً، أن لا شاكر عبسي جديدا في مخيم برج البراجنة... لكن رغم كلّ التطمينات المؤكدة بابتعاد المخيم عن التوتر الامني، يشعر من يدخل الى مخيم برج البراجنة ويخرج منه أنّ شيئا ما يغلي في برج البراجنة كما في عين الحلوة!

back to top