خواطر أميركية 2- 3: زيارة جديدة إلى مكتبة الكونغرس

نشر في 08-11-2007
آخر تحديث 08-11-2007 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

تعمر مكتبة الكونغرس بكل أصناف وأطايب العقول الموزعة على جميع نواحي المعرفة الإنسانية، التي يعتبرها ماديسون أساس العلم في العبارة التالية التي نُقشت على أحد حوائط الدور الثاني في المبنى الذي يحمل اسمه «العلم هو المعرفة المنظمة».

تمثل مكتبة الكونغرس الأميركي في واشنطن أهم مكتبات العالم على الإطلاق، بسبب ما تخزّنه من روائع الكتب والمخطوطات من بلاد العالم كلها، وبسبب ضخامة ودقة أرشيفها الذي يحتوي على عشرات الملايين من الكتب والمراجع، نعم عشرات الملايين لم يكن خطأ مطبعيا! تتوزع المكتبة على بنايتين رائعتين أساسيتين هما: بناية ماديسون وبناية جيفرسون، اللتان سُمّيتا تيمناً باسم رئيسين سابقين للولايات المتحدة الأميركية. تدخل البناية الثانية لعمل «هوية استخدام» مخصصة للباحثين، وفي دقائق قليلة ينفتح الباب أمامك لتدلف إلى عالم حقيقي ورائع من الكتب والمخطوطات المخزنة في مبان ٍهي أروع ما رأيته في حياتي من حيث التصميم أو الهندسة. أما الحوائط المزينة برسومات ملونة جميلة فتختلف من قاعة إلى أخرى وبشكل يجعلك تغيب عن الوقت غائصاً في الكتب ومشدوهاً بروعة التصميم والعمارة.

قضيت حياتي في المكتبات، وكل امرئ حر في اختياراته، من مكتبة الدولة في برلين التي أمضيت فيها أغلب وقتي أثناء دراستي العليا هناك، أو دار الكتب المصرية التي مازالت تحتفظ بروائع الكتب والمخطوطات، أو مكتبة الإسكندرية بتصميمها المعماري الجميل. وأغلب الدول التي زرتها - وهي كثيرة - لا تخلو من زيارة مكتباتها الوطنية، التي تعكس حضارة الأمم وعقلها الوثائقي، لكن المقارنة تبدو مجحفة للمكتبات التي ذكرت وأمضيت فيها الساعات والساعات، إذا ما استحضرنا مكتبة الكونغرس. تعمر مكتبة الكونغرس بكل أصناف وأطايب العقول الموزعة على جميع نواحي المعرفة الإنسانية، التي يعتبرها ماديسون أساس العلم في العبارة التالية التي نقشت على أحد حوائط الدور الثاني في المبنى الذي يحمل اسمه «العلم هو المعرفة المنظمة».

قطعت أكثر من عشرة آلاف كيلو متر من القاهرة إلى نيويورك لأصل منها إلى واشنطن، حيث مكتبة الكونغرس، التي طالما تصفحت موقعها الإلكتروني على بعد اثنتي عشرة ساعة جوية منها، كلما سنحت لي الفرصة والوقت. ومن سنوات كثيرة عزمت على زيارة المكتبة وتعزز العزم مع البدء في إعداد كتابي الجديد، وقيض الله لي زيارة الولايات المتحدة الأميركية، التي لا أكن أي قدر من التعاطف لسياستها الخارجية، بغرض زيارة المكتبة. تقطع المسافة بالقطار من نيويورك إلى واشنطن في نحو ساعتين ونصف الساعة، لم أتكبد خلالها «أهوال الطريق» كما اصطلح قديماً على وصف الرحلات الطويلة، فالطريق المزدحم بالأشجار والخضرة عبر فلادلفيا يجعلك تشعر وكأن القطار يمضي في طريقه وسط غابة جميلة خضراء.

تصل أخيراً إلى واشنطن الأهدأ من نيويورك بكثير والأكثر كثافة من حيث الأشجار ذات الأوراق الخضراء والحمراء والصفراء، التي يمرح السنجاب على جذوعها وأشجارها. أنا العربي القادم من الصحراء لم أسمع عن السناجب إلا في قصص العجائز التي يروونها للأطفال، ولم أرها إلا في قصص الأطفال المصورة، وبقدر سعادتي برؤية السنجاب فقد كانت خيبة أملي، فهو يشبه الفأر وغيره من بقية القوارض سواء من حيث اللون أو الحجم ولا يختلف عنها إلا في ذيله المنتفخ بالشعر. ولا يبدو السنجاب منتصباً كما دأبت قصص الطفولة على تصويره إلا فيما ندر، بل يبدو منهمكاً في تسلق الأشجار وجذوعها لالتقاط الغذاء من الثمار الصلبة لتلك الأشجار. ولكن خيبة الأمل في السنجاب تتوارى وتتضاءل مع تحقيق الأمل والتوقع من مكتبة الكونغرس، سواء من حيث المعرفة أو توثيق المصادر أو المقارنة بين مصادر وأخرى لتثبيت الوقائع السياسية والتاريخية التي تبحث فيها.

يحوي قسم الشرق الأوسط في المكتبة على الكثير من الوثائق والمراجع التي خُزنت وأُرشفت بانتظام لا مثيل له، ويقوم على سير العمل في القسم كفاءات عربية عالية، تستقبلك بابتسامة ودودة وتجيب على أسئلتك باستفاضة محببة واقتضاب عملي في آن معاً. ومن قسم الشرق الأوسط تنطلق إلى غرفة القراءة الرئيسية، التي تسبقها غرفة موظفَي المكتبة اللذين يجيبان عن الأسئلة ويرشدانك إلى كيفية البحث وطلب الكتب والمراجع، وبعد هذه الغرفة تتقدم إلى صالة القراءة الرئيسية المبهرة، المكونة من طاولات وكراسي خشبية عالية الذوق والفخامة التاريخية والمخصصة أصلاً لقراءات أعضاء الكونغرس.

عندما تتأمل قبة القاعة العالية جداً ترى في بؤرتها الرسوم الملونة الجميلة على الحائط وعلى الزجاج، وينسدل نظرك لتمر بالأعمدة الرخامية التي ترفع تلك القبة في مهابة ووقار، وهي من رخام فريد اللون مطعم بنقوش شديدة الدقة، ومستند إلى حوائط خشبية تصلها بالأرض في عمارة «تخلب الألباب»، وإن كان للتعبير الأخير من مغزى حديث فهو بالتأكيد في وصف مكتبة الكونغرس.

تأتي المراجع التي طلبت، وتشرع في القراءة والتدوين فينقضي الوقت الطويل من دون أن تشعر، لتخرج من المكتبة حالماً بالزيارة في الغد، ومرتسمة في أحلامك قاعاتها وحوائطها وقبابها وكنوزها الورقية والرقمية والبصرية. أعترف لكم أن مكتبة الكونغرس قد غيرت نظرتي إلى أميركا والعالم.

* كاتب وباحث مصري

back to top