في العمران والديموقراطية 1 - 4

نشر في 19-03-2008
آخر تحديث 19-03-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي مشكلة التعددية والديموقراطية في العالم العربي اليوم، هي مشكلة عمران وتخطيط للمدن في المقام الأول، فلا ديموقراطية في عمران عشوائي، أو عمران تسلّطي. فأولى خطوات الديموقراطية هي تغيير في العمران، وهذا ما قام به المعماري نورمان فوستر، عندما استطاع أن يحول «الرايستاغ» (قصر الحكم والقيصر) ‏في المانيا، ورمز التسلطية بعمرانه المتجهم الى مبنى فيه شفافية ونور أقرب إلى «البوندوستاغ» أو البرلمان الموجود في مدينة بون.

من يرى «الرايستاغ» اليوم بصورته الجديدة، يدرك معنى انضمام ألمانيا الشرقية إلى الغربية، ويدرك خروج ألمانيا الشرقية من عالم معتم إلى عالم مفتوح كان «الرايستاغ» بصورته الجديدة رمزا له.

فتح المعماري نورمان فوستر رئتي المكان‏،‏ حيث اضاف لـ «الرايستاغ» القديم القبة الزجاجية‏،‏ وبذلك حوّل معمار المكان من تجهم الدكتاتوريه الي انفتاح الديموقراطيه‏،‏ من مكان للفرد الى مكان للمجموع‏،‏ ومع ذلك فالذي يقارن هذا المبنى التاريخي الضخم‏،‏ أيا كانت تعديلاته‏،‏ مع «البوندستاغ» أو مبنى البرلمان في بون، الذي اكتمل بناؤه عام ‏1992،‏ لا يفوته أن يلاحظ الفرق بين معمار الديموقراطية وبين معمار النازية وما بعدها من معمار شيوعي اضطهادي‏،‏ فمعمار «غونتر بينش‏»،‏ الممثل في برلمان بون، هو مبنى يتسم بالشفافية والتنفس الديموقراطي المريح‏،‏ ورغم محاوله نورمان فوستر تعديل المبنى الدكتاتوري القديم، فإنه يظهر ثقيلا على الروح البشرية ومجهدا للجسد أيضا‏.‏

والمقارن للبنايتين في بون وبرلين، يستطيع ان يرى بشكل رمزي التحولات الايديولوجيه الالمانيه وانعكاساتها على العمران‏،‏ من تخطيط مدن وخلافه‏،‏ وكذلك على العمارة، كما أسلفت في حالتي برلين وبون‏.

تلك التحولات كانت موضوع حوار غني جرى في الساحة الألمانية بشأن علاقة المعمار بالديموقراطية‏،‏ وتساءل بعضهم عن علاقه الأنهار بالحكم وبالديموقراطيه‏،‏ خصوصا عندما نقلت العاصمه من بون على نهر الراين‏،‏ الى مدينة برلين حيث يطل البرلمان على نهر صغير يسمي سبري‏،‏ وينطقه الالمان ‏(‏اشبغي‏).‏

الحوار الأوروبي عن علاقه العمران بالقيم والمفاهيم الحاكمة، قلما تجده في الفورات الثورية في العالم النامي أو ما بعدها‏،‏ إذ يأتي نظام ثوري فيركب على عمران رجعي‏،‏ دونما تغيير في المساحات أو اتساعاتها‏،‏ لذلك وفي معظم الاحيان‏،‏ يأتي التغيير الثوري شكليا‏ً،‏ وكأنه طلاء جديد براق ولامع‏،‏ على قبة إقطاعية بنيت في زمن غابر تعكس علاقات اضطهاد للروح والجسد معا‏،‏ فرجال ثورة يوليو في مصر مثلا استخدموا القصور الملكية وجعلوها دورا للحكم، مثل قصر عابدين وقصر التين وسراي القبة... الخ.

التحولات الايديولوجية في أغلبها أتت بتغيرات عمرانية تعكس فكرها وعلاقات القوة فيها‏،‏ فلا يستقيم للعقل ان يجلس القائد الثوري في قصر الملك الخائن المخلوع‏،‏ قد يعطي هذا الإيحاء‏،‏ رمزية لعودة المسلوب من مال الشعب‏،‏ لكنه على المدى البعيد يرسخ فكرة الملكية ذاتها‏،‏ فيصبح الثوري‏ ملكاً‏،‏ ليس بقصد ولكن لأن المعمار يوحي بمثل هذه الرؤية للعالم، والتي تخلق وعيا تراتبيا للقوة يعكس العمران ويتفاعل معه‏.‏

رغم أن هذه القصور تمنح خيال الملك للقابع فيها، لكنها لا تستطيع وحدها أن تمنح أصحابها ملكاً، فالقابع في القصر لا يستطيع توريثه، لأن القصر آل إليه بوضع اليد.

ومشكلة وضع اليد كإثبات للأحقية أو الملكية، من المشاكل الخطيرة التي تواجه مجتمعاتنا العربية على كل مستوياتها. فمثلا تجد أن رجلاً يقف في الشارع يطالبك أن تدفع له لأنك تركت سيارتك عنده، هذا الرجل قرر بمفرده أنه يملك هذا الرصيف من الشارع، كذلك الشحاذون يقتسمون الحارات فيما بينهم، فلا يستجدي احدهم في منطقة تقع في حيازة شحاذ آخر، ونفس الحال بالنسبة للرجل القائم على حمام الرجال أو المرأة القائمة على حمام النساء، في مطار القاهرة، تُطلب منك نقود إذا استخدمت هذا الحمام، الذي يفترض أن تكون ملكيته للدولة، فالرجل الذي يقف في حمام المطار، قرر خصخصة الحمام، وهذا ينطبق على كثير من المؤسسات التي تُخَصخَص من خلال وضع اليد، وليس القانون.

ظاهرة وضع اليد كإثبات للأحقية أو الملكية، تترافق معها ظاهرة حديث التوريث في العالم العربي، بداية من توريث الحكم إلى توريث الوظائف والمهن، هذا عمران متكامل لا فكاك منه إلا بنقد مختلف وجديد.

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)

back to top