ارتطام لم يسمع له دوي
المؤلف: بثينة العيسىالناشر: دار المدى
ينطوي الإيقاع الروائي لدى بثينة العيسى في روايتها «ارتطام لم يسمع له دويّ» (صادرة عن دار المدى) على انسابية جميلة لا تخلو من بلاغة شعورية تصل بين عالمين خارجي وداخلي، وما بينهما من حوارية تقتضي الحال والموقف، باطنه وظاهره، وحيث لا تبدو الكتابة للوهلة الأولى تمتلك بشيء من العفوية ناصية هذه السلاسة غير المتكلفة، أو كأن هذه الكتابة لديها ما تستند إليه من العفوية والارتجال أكثر مما لديها من الصناعة حتى ولو نمّت صيغة الرواية عن صناعة أدبية لغوية تدخل عالم الاحتراف دون تردد أو خجل.طالبة تسمى «فرح» تفوز من قبل دولتها الكويت بشرف تمثيل بلدها في السويد لتكمل أبحاثها في علم الاحياء شريطة اجتياز الاختبار هناك من بين طلبة آخرين لدول أخرى.هناك في البيئة الجديدة والغربة الموحشة بالنسبة إليها، تنفجر الأسئلة من خلال بعض المواقف المفاجئة والتي لا تخلو من غرابة، أو من خلال هذا الارتطام الصامت والقوي بين مواطنة (التي هي فرح) ومواطن (بدون) اسمه «ضاري» المقيم منذ أكثر من عشر سنوات في السويد، إنه على ما يبدو ارتطام «ضاري» بالوطن من خلال «فرح» أو إنه ارتطام الوطن بالبدون من خلال «ضاري» والارتطام كعنوان اختارته الكاتبة لروايتها معبر ويشي بالكثير: فالارتطام هو اصطدام قوي بين جسمين أو شيئين كبيرين وثقيلين، إنه اصطدام يأتي من بعد، من مسافة كبيرة جدا وبسرعة فائقة يحصل، إنه ارتطام بين نيزك وكوكب أو بين كوكب وآخر، إنه في هذه الرواية يأخذ رسالة قوية لمعناه: ارتطام بين وجهين أو بين وجهي شخصين أضحيا رمزا لوطن ولغربة عن الوطن، للهوية وللاهوية، فالمسافة بينهما تقاس بمدى قسوة الاغتراب «المسافة بين الكويت والسويد» في اللغة واللسان والوجه والمناخ والعادات والتقاليد. وفيه يقاس مدى غربة الإنسان عن ذاته أيضاً، كاغتراب «ضاري» الذي ترعرع في الكويت ثم بعد عنها حاملا حبها بين ضلوعه وهو العاشق الدائم لمطرها ولنخيلها.وقع المفاجأةلقد استطاعت الكاتبة أن تصف في صفحة كاملة ما قد حدث خلال لحظة مرت أو دهشة عبرت بصمت من وقع المفاجأة على لسان الفتاة «فرح» التي ارتطم وجهها بحضور «ضاري» وحيث لم تكن تتوقع أن تجد في بلاد الضباب، شيئا من الكويت يؤنس وحدتها القاتلة التي أحست بها منذ لحظة وصولها، لحظة مرت بين عبارتين قالهما ضاري ملقيا التحية: قوة.. ثم: «السلام عليكم» ثم «الله بالخير يبه».هي: «وعليك مني سلام من الله ورحمة وبركات وتيه وبلسم، وعليك وطن ومنفى، عليك أنت.. أيها الغريب، عليك توقي ولعناتي! كل شيء فيك يوقظ فيّ وطناً أعرفه» تحمل الرواية أكثر من دلالة رمزية في أكثر من مكان، عن مقولة الانتماء ومقوماته، ونسبته واطلاقيته أيضاً وإنه على الرغم من المعالجة الواقعية تنضح بهذا التحليق الشعري لصياغة أوجاع الروح والجسد، وآلام الفكر لدى صدمة الواقع المبدد، لحلم هذا الجيل من الشباب الذي أشعل فيه فتيل التمرد: «أنت لا تفهم معنى أن تعتلف كتباً طوال عامين ثم يتضح لك أنها تحمل معلومات أكلها العطب منذ عشرين عاماً... أنت لا تعرف معنى أن تحلم.. تحلم دائماً.. وتقضي حياتك في الحلم ثم تسقط بقوة.. بقوة ياضاري.. لتجد نفسك في المؤخرة حيث المكان مخصص لك وحدك.. بمقاسك أنت.. لأنك عربي.. عربي.. » الكاتبة تحاول أن تعالج بالأسلوب الروائي مشكلة قديمة جديدة بعيداً عن أدبيات السياسة الجافة والقوانين. إنها تحاول أن تقبض على الوجع البشري مجسداً في هذا الارتطام بين شخصين (شخصيتي الرواية) فتقربنا من انسانية المشكلة من خلال هذا الأدب الواقعي الموغل في الشعورية وهي تلتقط منذ البداية الأداة المناسبة للتمهيد للوصول إلى ما هدفت إليه في الفصل الثاني: أنا بدون. والمشكلة تطل برأسها منذ بداية اللقاء: «أسألك بصعوبة: كويتي؟ وتجيب أنت بلغة الكافر بالانتماء أبداً، بالأوطان أبداً، أنا ضاري يكفيك أن تكون كذلك، إذ لا شيء جدير بانتمائك إلا انت، الاسطورة البدوية التي لا تروي في الصحراء.وتقول الكاتبة على لسان «فرح» لانك لا تمتلك بطاقة تعريف أخرى، لا شيء سوى تلك الأعين المشبعة بالحنين..وتعتمد تقنية السرد الروائي لدى بثينة العيسى على التحليل الوصفي للظاهرة أو على الوصف التحليلي للسؤال فتصل إلى مكنونات الداخل كفرصة تقتنصها للشروع في وصف وطنها الكويت وفي وصف حالتها وحالة «ضاري» من الداخل. فها هي فرح ترد على سؤال ضاري لها: كيف هي الكويت؟ ببوح داخلي وتساؤل ذاتي: تسألني وكأنك تسأل عن صديق تقطعت عنك سبله، ثم لا تلبث نقطة الانتماء أن تتسع وتتطور من خلال هذا التحليل الوصفي الذي تتمسك الكاتبة به والذي يبرز على الدوام بين حالتين أو حادثتين أو بين سؤال وجوابه أو خلال حوار طويل، وكأنه انطباع أو موقف. فها هي تقول على لسان بطلتها «بعد الفشل في أداء لحن النشيد الوطني أسوة ببقية الوفود: «لا يجمع بيننا إلا بصمات القمع على جلودنا وأعين تحدق إلى اللامكان.. الغربة تتناسل فيّ».وهي تقول في مكان آخر: «بدت مفارقة ساخرة أن تكون الوحيد الذي يتحدث لغتي وآخر شخص أفهمه، آخر شخص أتحسس معه جغرافيا مشتركة هذا الوطن الذي أتينا منه بفارق أحد عشر عاماً يبدو آتيا من الغياب، من العدم، وكأنه لم يكن يوماً، كنت القريب الأكثر بعداً، والبعيد الأكثر قرباً، كنت جالية من الطلاسم المغرورة».ولا نجد مجالا للمقارنة لدى الكاتبة بين وطنها والوطن الآخر. فانتماؤها جليّ ولا لبس فيه، إذ تجيب «فرح» رداً على سؤال ضاري لها حيث يقول: أخبريني لماذا تدرسين هكذا كما لو أن عفاريت العالم كله تطاردك؟ من أجل الوطن؟ بما يلي: «هل بوسع أيّ أحد أن يكون بليداً لدرجة إجراء مفاضلة ساذجة بين وطن ومنفى؟ هل بلغنا حد الامتنان بالقرب إلى هذا الحد؟» وتضعف هذه المقارنة في أماكن أخرى بعد فشل «فرح» في اجتياز الاختبار، ثم بين أن يأتي ضاري إلى الوطن أو أن يأتي الوطن إليه، يرى الشاب بأن الكويت قد أتت إليه من خلال «فرح» فهي كل الوطن ولا يتردد في الطلب من هذا الوطن البقاء عنده ذلك الوطن الذي يفتقده فعلاً بمطره ونخيله.هي: «انت يا بدويا في الصميم تعرف أن المطر لأيّ عربي ضرب من ضروب العشق»هو: «لو عصبوا عيني تحت المطر سأظل قادراً على تعرف مطر الكويت من مطر السويد» وهكذا تظل الكاتبة تتنقل بمهارة بين وصف المعاناة الشخصية الداخلية بشاعرية واضحة «ملامح المكان مطموسة في المكان مثل وجه يهرب من وجهه» وبين المعالجة الذكية لوضع انساني يطرح هكذا دون وسائط وبكل وضوح فيصبح طافياً على السطح.ضاري: كان ينبغي أن تسأليني بوضوح سافر ولن أغضب: ضاري كيف تشعر لكونك (بدون) وسأخبرك ببساطة أنه أمر رائع يا صغيرتي.. أن أكون (بدون) رائع ومرعب.. كالحرية تماماً. ألم يقل سارتر: الحرية هي «الرعب» وأنا أشعر بالشيء نفسه رعب بهيّ ومثير.