حرب للجيل الجديد
أصبح عمر الحرب الأهلية اللبنانية 33 عاماً وبضعة أيام. مرت ذكراها هذا العام مشفوعة باحتفالات كثيرة. اللبنانيون أعلنوا أنهم لا يريدون الحرب. لا يريدون تكرارها، وتكرار مآسيها. تذكر اللبنانيون المخطوفون والذين لم يعرف عن مصائرهم شيئاً. وتذكروا أيضاً المساجين في السجون السورية والإسرائيلية. كما تذكروا مصابي الحرب وقتلاها. جمعوا المآسي في لحظة واحدة وأعلنوا أنهم لا يريدون الحرب. واقع الأمر أن المحتفلين بذكرى الحرب وتذكرها ليسوا اللبنانيين جميعاً. بعض هؤلاء ما زال في المواقع التي تركته فيها الحرب السابقة، وبعضهم الآخر استحدث خنادق ومواقع جديدة. اما أولئك الذين احتفلوا من أجل ألا تتكرر الحرب، فلم يجدوا حجة مقنعة ومفحمة لإفحام المتخندقين في مواجهة بعضهم من الضفتين الأهليتين في لبنان، أقوى وأبلغ من تذكر مآسي الحرب. رافضو الحرب هم رافضو مآسيها. فلو كانت المآسي أقل لكان يمكن تكرارها مرة أخرى. رافضو الحرب هم في هذا المعنى رافضو عنفها العاري والمسلح، لكنهم لا يرفضون منطقها. لا تشعلوا حرباً مرة أخرى، لأنها تصيب الأجيال القادمة بعاهات وتشوهات. هذه العاهات والتشوهات ليست سياسية ولا تتصل بمعنى هوية البلد أو حدوده أو دوره، بل هي تشوهات جسدية في معظم الأحيان. نريد أن نصدق أن الممتلئين صحة وشباباً اليوم حين ينظرون إلى هؤلاء المعوقين والمصابين بجروح الحرب قد يترددون في إشعال حرب مرة أخرى. ونريد أن نؤمن أيضاً أن صورة المفقود والمخطوف في شبابه قد تجعل الشاب الفائر اليوم بالحماسة والحيوية يقرر أن يخفف من غلوائه بعض الشىء، لأنه لا يريد أن يلقى مصير الشاب الذي لم يبق منه غير صورة تعلقها أمه في عنقها، وهي تعتصم مطالبة بالكشف عن مصيره، أي موته لا أكثر ولا أقل. لكننا لا نستطيع. لأن الذين يتحضرون اليوم للموت من أجل قضاياهم «المحقة دوماً» هم غير الذين ماتوا من أجل قضايا أخرى كانت أيضاً محقة. وهم فضلاً عن غيرتهم هذه، يؤمنون أن هؤلاء المفقودين فقدوا لأجل قضايا خاسرة. فالمقاوم الذي استشهد ضد إسرائيل في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، قضى من طريق الخطأ السياسي والتكتيكي. يومها لم يكن في الإمكان مقاتلة إسرائيل وهزيمتها. لكننا اليوم نستطيع هزيمتها. ويومها لم يكن النصر ممكناً لكن النصر اليوم بات مؤكداً. فقط نحتاج أن نقلع عن خوفنا من الألم وتكرار المأساة لنحقق النصر من دون ريب. لا جدوى من تذكير هؤلاء المتحمسين اليوم، أن متحمسي الأمس كانوا يؤمنون أيضاً بأن الأنظمة لا تحرر فلسطين، ووحدها المقاومة الشعبية المسلحة هي الطريق لتحريرها. وأن إيمانهم هذا دفعهم إلى الاستشهاد على الطريق نفسها التي يتحضر لعبورها شهداء اليوم. ولا جدوى من تذكير متحمسي اليوم، أن الحرب الأهلية الأولى كانت تقسم اللبنانيين إلى شعبين عميلين: شعب عميل للمقاومة الفلسطينية والجماهيرية الليبية وسوريا، وشعب عميل لأميركا وإسرائيل. وأننا بحجة قتال العملاء خضنا حرباً لم تنته فصولها بعد. مع ذلك، يجد متحمسو اليوم حججاً لا تنتهي، تثبت أن الناس في الضفة الأخرى عملاء ومأجورون، وأنهم وحدهم على حق. هكذا يصبح تطلب العيش والأمن ضرباً من التخاذل والعمالة. ويصبح المطالب بعدم تكرار المآسي خائناً وانهزامياً. لأننا اليوم أقوى مما كنا عليه من قبل. «حزب الله» اليوم أقوى من حركة «فتح» عام 1982. ونحن نعلم أن هذا صحيح، لكننا نعلم أيضاً أن إسرائيل هي أقوى اليوم وأشد تسلحاً وأشحذ رغبة بالقتال مما كانت في العام 1982. ونعرف اليوم أنه لو قدر لنا مرة أخرى أن نعود إلى عام 1982، لكنا طالبنا ياسر عرفات أن يجنب بيروت شهراً أو بضعة أسبايع إضافية من الجوع والعطش والنار الإسرائيلية. إذ لم تكن الأرواح المزهقة في بعض الوقت الضائع من أسابيع بيروت المظلمة في ذلك العام لتغير في المعادلة الكثير. نعرف أن بعض الصمود الإضافي كلفنا ألماً اضافياً. لكننا لا نستطيع اليوم أن نطلب الطلب نفسه من متحمسي اليوم، إذ لا سبيل لإقناع أحد منهم أن هزيمة إسرائيل هزيمة نهائية تكاد تكون ضرباً من المستحيل اللبناني. وأن مثل هذا الأمر يتطلب أكثر من زوال لبنان وبعض جيرانه، هذا إن كان ذلك ممكناً أصلاً. لكننا مع ذلك لا نسألك اللهم رد القضاء، بل نسألك اللطف فيه.*كاتب لبناني