زيارة جديدة إلى الزعيم محمد مصدق
يجذب انتباهك باقات الأزهار المنتشرة في البيت التي يبعثها محبو الزعيم لتجاور قبره المنصوب في صدر البيت، وأمام القبر صورة كبيرة للدكتور مصدق وملامح وجهه ممتلئة تصميمًا. أما في الغرفة المجاورة فقد وضعت صورة أخرى له في عام الرحيل، وتختلط فيها نظرته بين الحزن والأسى والوحدة.يحل شهر أغسطس من كل عام وتحل معه ذكرى حدث تاريخي مهم في تاريخ المنطقة، هي ذكرى الانقلاب على حكومة الدكتور محمد مصدق في إيران في العام 1953. والدكتور محمد مصدق ليس مجرد شخصية سياسية تولت منصب رئيس الوزراء في إيران، بل هو زعيم سياسي من طراز رفيع، قاد أول ثورة مدنية في تاريخ الشرق الأوسط ضد أعتى الإمبراطوريات الشرقية آنذاك. والزعيم الشعبي المتحدر من عائلة عريقة هي «مصدق السلطنة»، التي تمتد بالنسب إلى سلالة آل قاجار التي حكمت إيران طيلة قرون، تحدى سلطة الشاهنشاه محمد رضا بهلوي والمصالح الكونية التي وقفت خلفه. وأدخل الزعيم الإيراني الكبير مصطلح «التأميم» لأول مرة في الشرق الأوسط، واليوم لا توجد دولة شرق أوسطية واحدة لم تربح من الآثار التي خلفتها ثورة مصدق. إذ إن من نتائجها المباشرة شيوع التأميم في كامل منطقة الشرق الأوسط وتعديل التوازن بين الدول الوطنية والشركات الكبرى، فاستحق مصدق بامتياز وصف «الزعيم». جاء مصدق إلى الحكومة قائداً لثورة مدنية حقيقية داخل البرلمان الإيراني، ولم يكن مدبراً لانقلاب يضع النياشين والرتب والأوسمة على بزته العسكرية، كما جرى ويجري في الكثير من دول المنطقة. كان مصدق على رأس «الجبهة الوطنية» (جبهه ملي) التي تكونت منذ أواخر الأربعينيات من المثقفين والوطنيين الليبراليين، وأدت مطالبته المستمرة بتأميم النفط إلى نجاحه في استقطاب تأييد الشارع الإيراني. ثم انضم واحد من أبرز رموز المؤسسة الدينية الإيرانية هو آية الله كاشاني إلى حركة مصدق الوطنية، فأفتى آية الله كاشاني بأن «كل من يعارض تأميم النفط الإيراني هو عدو للإسلام». وتولى مصدق المنتخب ديموقراطياً رئاسة الوزراء خلال سنتين فقط غيرتا وجه إيران والمنطقة، وامتدتا من العام 1951 حتى الإطاحة به عبر انقلاب مخطط له ومدعوم أميركيا في العام 1953. كان الهم الأساسي لمصدق تحديث إيران وبناء اقتصادها وتحريرها من هيمنة الشركات النفطية الكبرى، وتسببت إجراءات الإصلاح الزراعي التي شرع في تطبيقها بمعاداة الإقطاعيين له. أما أفكار الحياد عن الأحلاف بالترافق مع تأميم الثروة الوطنية الأساسية «النفط» فقد حشدت عداء أميركيا غير مسبوق للزعيم وحكومته الوطنية. وبسبب الإصلاح الزراعي والتحالف مع كتل اليسار والليبراليين، فقد أفتت مجموعة كبيرة من رجال الدين بأن «مصدق معاد للإسلام والشريعة»، وانسحب آية الله كاشاني من التحالف مع مصدق فاتحاً الطريق أمام خصوم الزعيم في الداخل والخارج. وكان كاشاني قد رشح نفسه رئيسًا للمجلس النيابي، واتهم كتلة مصدق بأنها تقف ضد توليه المنصب، في حين اتهمه أنصار مصدق بتهمة «بيع القضية الوطنية» لمصلحة الشاه. وبعد نجاح الانقلاب أجبرت العناصر الوطنية الليبرالية والتقدمية، التي شكلت القاعدة الأساسية لتيار مصدق و«الجبهة الوطنية»، على التواري بسبب القمع الذي مورس في السابق ضدها. وساهم هذا التواري، ضمن عوامل أخرى كثيرة، في ظهور التيار الديني الذي قاده الإمام الخميني على الساحة، وصولاً إلى انتصار الثورة الإسلامية في عام 1979. حكم على الدكتور مصدق بالسجن مدى الحياة، قبل أن يخفف الحكم إلى النفي في قرية «أحمد آباد»، الواقعة في شمالي إيران. تنسى مسافة الساعتين من طهران في طريق يتلوى بين روعة الطبيعة الخضراء وهدوء الريف الإيراني؛ وحين تتوقف السيارة لتتزود بالوقود تعود رحلة الدكتور مصدق السياسية إلى رأسك من جديد بعد مرور أكثر من نصف قرن عليها. تصل في النهاية إلى «أحمد آباد» وتستدل على البيت بصعوبة، إذ يبدو من الخارج أنه مثله مثل أي بيت إيراني قديم، ولا توجد لافتات أو علامات توضيحية تقود إلى مكانه. تتبادل مع الحارس بضع كلمات قبل أن تتسع ابتسامته فاتحاً الباب في ترحيب إيراني لطيف، لتلاحظ حديقة البيت المهجورة وفي وسطها تقف سيارة الدكتور مصدق إنكليزية الطراز والعائد إلى بداية الخمسينيات. هنا أمضى الزعيم الإيراني الكبير إقامته الجبرية الممتدة أربعة عشر عامًا، بين عام 1953 حين تم الانقلاب عليه، وعام 1967 حين لقي ربه وحيدًا بين جدران البيت. يجذب انتباهك باقات الأزهار المنتشرة في البيت التي يبعثها محبو الزعيم لتجاور قبره المنصوب في صدر البيت، وأمام القبر صورة كبيرة للدكتور مصدق مخاطبًا الجماهير الإيرانية رافعًا يديه بعنفوان، وملامح وجهه ممتلئة تصميمًا. أما في الغرفة المجاورة فقد وضعت صورة أخرى له في عام الرحيل، وتختلط فيها نظرته بين الحزن والأسى والوحدة. أطاحت عملية «أجاكس»، وهي الاسم السري الوارد في أرشيف المخابرات المركزية الأميركية لوصف الانقلاب، بحكومة الدكتور مصدق المنتخبة ديموقراطياً. ولم يسامح الإيرانيون لواشنطن تلك الفعلة بالرغم من الاعتذار الرسمي لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت عنها عام 2000، أي بعد مرور سبعة وأربعين عاماً. واليوم تبدو واشنطن مقدمة على خطأ أكبر بحق إيران، ونذر التصعيد التي ترتسم في أفق المنطقة؛ ستجعل من الصعب على الإيرانيين، مهما كانت أيديولوجياتهم وتوجهاتهم الفكرية، أن يسامحوا أميركا... مرة ثانية. كاتب وباحث مصري