الحجاب لا يحجب الأهداف السياسية في تركيا!
فضل الجيش التركي الصمت في المساجلة التي دارت بشأن تشريع الحجاب؛ وهو الذي اعتاد إظهار مواقف مغايرة في هكذا مناسبات. ويتحدث بعض الأتراك عن «صفقة» بين حزب «العدالة والتنمية» الحاكم والمؤسسة العسكرية بمقايضة تمرير قانون الحجاب في مقابل الاستمرار في مكافحة حزب «العمال الكردستاني».خاضت التيارات والأحزاب السياسية في تركيا معركة برلمانية وإعلامية شرسة الأسبوع الماضي حول السماح بارتداء الحجاب في الجامعات، وفي خضم هذه المواجهة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في المنطقة كلها، تناثرت الاتهامات وهبت التظاهرات المعارضة والمؤيدة، حتى بدا الأمر محملاً بخلفيات إيديولوجية أكثر منه إدارة هادئة لمناقشة قضية سياسية. يبدو الأمر غريباً للمتابعين خارج تركيا، فالحجاب هو مسألة حريات شخصية تضمنها أسس وقواعد العلمانية باعتبارها تكفل الحقوق المدنية والدينية. ولكن الأمر يختلف في تركيا التي تعرف منذ قيام جمهوريتها علمانية متشددة، يُعد الحجاب بموجبها رمزاً لتيار الإسلام السياسي. وتفاقمت المساجلة عندما قدم حزب «الحركة القومية» بزعامة دولت باهشلي والمتحالف مع حزب «العدالة والتنمية» الحاكم بقيادة رجب طيب أردوغان، مشروعاً لتعديل الفقرة الرابعة من المادة العاشرة من الدستور التركي؛ تقضي برفع التمييز بين المحجبات وغير المحجبات في الجامعات التركية. ونجح التحالف المكون من الحزبين في تأمين الأغلبية اللازمة لتمرير مشروع القانون بغالبية 411 صوتاً مع القانون الجديد، أي أكثر بكثير من ثلثي عدد مقاعد البرلمان التركي البالغ عددها 550 مقعداً. تضمّن مشروع القانون الذي تم إقراره بعد مناقشات عدة «تجريم أي طرف يحرم أي شخص من تلقي التعليم لأي سبب لم يأت ذكره في القانون»، وهكذا تم عملياً إلغاء قرار حظر ارتداء الطالبات للحجاب الذي يعود إلى عام 1980 بعد الانقلاب العسكري الذي قاده كنعان افرين. من وقتها وحتى قبل أسبوع واحد فقط، لم يكن متاحاً أمام الطالبات التركيات المحجبات سوى حلين للاستمرار في دراستهن باعتبارها حقاً من حقوق الإنسان الأساسية: إما خلع الحجاب أو وضع باروكة شعر مستعارة على رؤوسهن! ويقول بعض العالمين ببواطن الأمور أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اضطر قبل سنوات لإرسال ابنته المحجبة حتى تتعلم في الولايات المتحدة الأميركية، وكي لا يتحول موضوعها إلى قضية رأي عام تطاول شخص رئيس الوزراء وسياسات حزبه. الملفت أن التعديل الطفيف على مواد الدستور يسمح بغطاء الرأس التقليدي فقط، والذي ترتديه غالبية نساء الأناضول متدينات وعلمانيات، مع التأكد من أن يظل وجه النساء مكشوفاً بهدف قطع الطريق على أشكال أخرى من أشكال الحجاب الأكثر تشدداً مثل النقاب أو الخِمار أو الإسدال. اتفق غلاة المتشددين الدينيين وغلاة العلمانيين في تركيا -للمفارقة- على الاستياء من القانون الجديد، فبالرغم من رفع الحظر على الحجاب في الجامعات التركية يعتقد المتشددون دينياً أن هذا القرار غير كاف. ويتأسس موقف المتشددين على قاعدة أنه يستبعد الخِمار، أي الحجاب المسدل ليغطي الرقبة ويدور حول منطقة الرأس بالكامل في حين يُترّك غطاء الرأس التقليدي فقط، كما أن النساء اللائي يقمن بالتدريس في الجامعات والموظفات سيبقين ممنوعات من ارتداء الحجاب وفقاً للتعديل الجديد أيضاً. من ناحيتهم يخشى غلاة العلمانيين في تركيا من تزايد التعديلات مع مرور الوقت، وهو ما يؤدي- حسب اعتقادهم- إلى الضغط على النساء غير المحجبات لتغطية الشعر. ولذلك فقد اندلعت تظاهرات العلمانيين خوفاً من أن يؤدي قانون رفع الحظر عن الحجاب أن تخطو تركيا خطوة جديدة نحو تطبيق الشريعة الإسلامية، كما ظهر على اللافتات التي حملوها. وبلغ التخوف- غير المبرر في الواقع- أقصاه عندما اعتبر زعيم حزب «الشعب الجمهوري» المعارض دينيز بايكال، أن مشروع القانون يشكل «تهديداً للدولة التركية»!. فضل الجيش التركي الصمت في المساجلة التي دارت؛ وهو الذي اعتاد إظهار مواقف في هكذا مناسبات، إذ يبدو الآن مشغولاً بالمعارك الدائرة في شمال العراق لمكافحة حزب العمال الكردستاني ولا مصلحة له في توتر جديد مع الحكومة التي باركت وأيدت هذا التدخل. ويتحدث بعض الأتراك عن «صفقة» بين حزب «العدالة والتنمية» والمؤسسة العسكرية بمقايضة تمرير قانون الحجاب في مقابل الاستمرار في مكافحة حزب «العمال الكردستاني». ما هي الرسالة السياسية التي يمكن استخلاصها من تعديل الدستور التركي الآن لرفع الحظر عن الحجاب؟. الأرجح أن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم يتسق مع ميول شرائح كبيرة من ناخبيه المتدينين، أما حزب «الحركة القومية» اليميني المتطرف والمعارض لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي فيتوخى من التعديل الطفيف للدستور تكريس ابتعاد تركيا عن الاتحاد الأوروبي، ومرد ذلك أن محكمة العدل الأوروبية لحقوق الإنسان كانت قد أيدت قبل عامين حظر ارتداء الحجاب في الجامعات التركية. لم تفلح المساجلة الدائرة حول الحجاب في حجب الأهداف السياسية للمعارضين والمؤيدين والصامتين!* باحث وكاتب مصري