مثقفو التغيير- عودة إلى مسارات الفعل
قناعتي أن الأغلبية العظمى من المثقفين العرب بحملها أمانة صياغة الرؤية والمشاركة في فعل التغيير، وبغض النظر عن صيرورة ومآل عمليات التحول السياسي في مجتمعاتنا، إنما تسهم في بلورة لحظة إبداعية جديدة في ثقافتنا وتعيد صناعة الأمل الاجتماعي لشعوب تاقت إلى التخلص من حالة يأس فرضها عليها حديث مسترسل عن أزمات لا فكاك منها.أعلم أن المثقف في عالمنا العربي مأزوم إلا في ما ندر، وأدرك أيضاً أن أصل البلاء هو هيمنة رجعيات مختلفة على الحياة الاجتماعية والسياسية وما ترتبه من قيود وخطوط حمراء. على الرغم من ذلك تدلل الخبرة المعاصرة لعدد من المجتمعات العربية على أن ثمة دورين رئيسين يضطلع بهما المثقف ويسهم من خلالهما بصورة غير مسبوقة في صياغة أولويات المرحلة الراهنة.فمن جهة، ومن دون تجاهل أهمية تبلور توافق مبدئي للقوى الوطنية العربية على أهداف الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية كعناوين كبرى للمرحلة الراهنة، ما لبث الغموض يغلف المضامين الأساسية لهذه المفاهيم والاستراتيجيات المثلى للوصول إليها، كما يعترض طريقها العديد من مناطق المحرمات التي أورثنا إياها منطق التطور الاجتماعي في العقود الماضية. تحتم هذه السمة، وهي ليست حكراً على عالمنا بل خاصية بنيوية للحراك السياسي في المجتمعات البشرية، إسهاماً متواصلاً من المثقفين بجانب السياسيين والحركيين سواء في باب استبيان الوجهة النهائية لعمليات التحول وصياغة الأولويات الواقعية لمراحلها المتعاقبة أو فيما خص تفكيك المحرمات والقفز فوقها كلما أمكن. ولا شك أن النقاشات الرائعة الدائرة رحاها اليوم حول استراتيجيات الإصلاح وجدلية العلاقة بين مؤسسات الدولة وقوى المعارضة، فضلاً عن الموقف من تيارات الإسلام السياسي وفهمها للديموقراطية وحدود دور الأطراف الخارجية، إنما تعبر بجلاء عن عزم المثقف العربي القيام بمهمة صياغة الرؤية بجرأة وشفافية افتقدناهما كثيراً في الفترة السابقة وفي إطار التزام بيّن بالشأن العام. هناك، من جهة أخرى، نفر غير قليل من المثقفين العرب، معظمهم ينتمي إلى ما يعرف بجيل السبعينيات، اجتاز إما حاجز الخوف من العمل التنظيمي وإما أوهام العزلة المجتمعية، وإما كليهما معاً، وانخرط في فعاليات قوى المعارضة والحركات الاحتجاجية المنتشرة باتساع عالمنا. هؤلاء عثروا أخيراً في التحول الديموقراطي على قضية جيلهم الحركية بعد عقود من الاقتصار على ميثولوجيا الأزمة حين الاقتراب من الواقع العربي، وحسموا خياراتهم القيمية والسياسية ليس باتجاه صياغة بدائل للوضع القائم فحسب، بل السعي الفعال لتغييره، أيضاً. تختلف الرؤى والاجتهادات وتتفاوت الاستراتيجيات المقترحة، إلا أن الهدف يظل هو إنجاز تحول مجتمعي توافقي نحو إدارة ديموقراطية تضمن حق المواطن العربي في حياة حرة كريمة تختفي منها الممارسات القمعية للدولة ونخبتها وتكفل ترجمة الإرادة الشعبية والمصلحة العامة إلى سياسات فعلية. وقناعتي أن الأغلبية العظمى من المثقفين العرب بحملها أمانة صياغة الرؤية والمشاركة في فعل التغيير، وبغض النظر عن صيرورة ومآل عمليات التحول السياسي في مجتمعاتنا، إنما تسهم في بلورة لحظة إبداعية جديدة في ثقافتنا وتعيد صناعة الأمل الاجتماعي لشعوب تاقت إلى التخلص من حالة يأس فرضها عليها حديث مسترسل عن أزمات لا فكاك منها، وطال شوقها للمشاركة في تحقيق هدف عام يخلصها من دوامات الحلول الفردية الجزئية. لن تغيب القيود التي تفرضها نخب الحكم على المثقفين المستقلين وأغلب الظن أن التضييق عليهم «والملاحقات الأمنية أحد أهم أدواته» سيتواصل، بيد أننا أمام دينامية جديدة تملك فرصاً فعلية للتطور والاستمرار. * كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي- واشنطن