الاستقرار في الأرض

نشر في 03-12-2007
آخر تحديث 03-12-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي

الحياة على الأرض اختبار للإنسان، خلقها الله له ليستقر فيها ويعيد خلقها وتشكيلها بعقله وإرادته، فالإنسان يشارك في صنع الحياة فيها ويحولها من حياة عضوية إلى حياة عمرانية، والله خالق الأرض والحياة، والإنسان صانع الحضارة والتاريخ.

الأرض ملك لله وهو وارثها أيضا وجعلها مستودعاً ومقراً للإنسان، يستقر عليها ويتشبث بها، ويقاوم إخراجه منها، ينتشر عليها، ويعمل فيها ويأكل منها، وينفق على غيره من رزقه، وعليها يؤسس المدينة ويقيم العمران.

الأرض للسكن وليست للهجرة، وللتمسك بها إعلاء لكلمة الله « فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ»، السكن في الأرض أمر إلهي للمتقين وليس للعصاة «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ». فشرط السكن في الأرض التقوى والطاعة وليس الجحود والعصيان «اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا». السكن في الأرض نتيجة وليس مقدمة، استحقاق وليس حقا «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي». هو نتيجة لجهد الإنسان وكسبه وليس حقا مكتسبا من وعد إلهي لشعب خاص كما هي الحال في الصهيونية.

والإخراج من الأرض غاية العصاة «وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا». وقد هلك فرعون لأنه أراد إخراج جزء من شعبه من الأرض «فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا». الإخراج من الأرض جريمة يثور ضدها الضحايا «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ». وهي تهمة العصاة للأنبياء «قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» كما اتهم فرعون موسى. والحقيقة أن الوحي تحرر للبشر من ربقة الطغاة. ليس الوحي سحرا يخرج الناس من أرضهم بل هو حق يجهر بنفسه لتحرير الأرض كلها من نظم البغي والطغيان «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ». وعلى الإنسان الاختيار إما التحرر من الطغاة والهجرة المؤقتة حتى العودة والفتح أو الاستسلام لهم «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا». واتباع الهدى واختيار التحرر قد يؤدي إلى الطرد من الأرض والإبعاد منها والنفي والتشريد فيصبح أهل البلاد شعبا من اللاجئين «وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا». كل شعب يعيش حيث استقر، لا يترك أرضه إلى أرض غيره بدعوى الأحقية.

عاش اليهود في مصر منذ هجرة يوسف والذي أصبح وزيرا على خزائن الأرض، حفيظا عليما. ولاؤه لمصر اعترافا بالنعمة وإكرام المثوى من والديه اللذين تبنياه، والخروج منها إلى فلسطين وإخراج الكنعانيين عدوان لا يقره الأنبياء، ولا كان هدف موسى. هو ما فعل يوشع من بعده، استيلاء على أرض الغير والاستقرار من بدو رُحّل في أرض خضراء لإيجاد أرض لليهود بعد التيه يستقرون عليها حربا وليس سِلماً، عدوانا وليس جوارا، طردا وليس كرما، عنصرية وليس أخوة، استيطانا وليس مشاركة، إرهابا وليس إكراما للضيف.

ولا يوجد إسكان دائم لشعب معين في أرض بلا شروط، وعلى نحو مجاني، وبلا مقابل من تقوى وطاعة وعمل صالح «يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» باعتبارهم جماعة من المؤمنين يعيشون مع غيرهم في أمن وسلام. فلسطين أرض مقدسة لأنها مهبط الأنبياء، وهي مقدسة في ذاتها لأنها وسط العالم وليست عند شعب بعينه. القتل والعدوان فيها ضد التقديس، الحياة عليها مقدسة مثلها، وقد تزوج موسى من إحدى ابنتي شيخ مدين وعمل مع قوم مدين مزارعاً، وهو القوى الأمين، ثم انقلب اليهود على مدين وقتلوا أبناءهم وسبوا نساءهم غدرا بالليل.

وبعد الاستقرار يأتي الانتشار في الأرض والرحلة فيها والسعي عليها «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ». فالأرض مكان للاستقرار والحركة، للزراعة والفتح، للسكن والهجرة، للغرس والانتشار، والإنسان حامل أمانة، ومبلغ رسالة، ينشر التوحيد في كل مكان، وتتحرر به الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها، فالأرض لله والحكم لله، والتوحيد لا يعرف حدودا ولا قسمة، والأرض واحدة مثل أن الله واحد، والإنسانية واحدة، والحقيقة واحدة.

والاستقرار في الأرض للعمل، فإذا ما انتهي وقت العمل انتهى السكن في الأرض وجاء قوم آخرون، السكن في الأرض امتحان واختبار لآدم وبنيه بعد أن كان في السماء، وبعمله هبط إلى الأرض «قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ». الإنسان مارّ عليها والأرض باقية، خلوده في آثاره التي يتركها في الأرض، فالأرض جغرافيا وتاريخ، والعمل الصالح يتراكم في الأرض جيلا وراء جيل، مسؤولية فردية وجماعية، وإلى الله يرجع كل شيء.

والأرض قابلة للفعل الإنساني طيّعة له، مطيعة لإرادته، مادة خام يشكلها الإنسان «أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا». وفيها الأنهار لزراعة الأرض والانتقال والشرب «وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا». يشق الإنسان الجبال، وينحت فيها بيوتا، ويسير بالفلك عبر البحار، ويرغب في الطير في السماء، وهنا تنشأ المدنية أي قدرة الإنسان على التعامل مع الطبيعة لتسخيرها لمصلحته، الإنسان من الإنس وليس من النسيان، والإنس اقتران بالآخر، والعيش مع الجماعة. لا يعيش الإنسان منعزلا في ركن من الأرض بل في جماعة في أفق الأرض الفسيح بلا حدود.

والأرض مصدر الرزق والكسب مما يهبط عليها من الأمطار فتخضر، ومما يُستخرج من معادن، فالرزق من السماء ومن الأرض بفعل الطبيعة المسخرة للإنسان «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ». فلا يوجد كسب سريع عن طريق العمولات والوساطات بل بالإنتاج، والعمل وحده مصدر القيمة، والأرض مصدر للطعام الحلال والكسب المشروع «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا»، وليست للنهب والهدر والتبذير كما يفعل السفهاء، والأرض مثل الجنة في السماء، جنات من أعناب وزرع، يأكل منها الناس وليست أرضا قاحلة يموت فيها الزرع والضرع كما يشاهد الآن في السودان وتشاد والصومال وأثيوبيا وبنغلاديش «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ»، ونبت الإنسان في الأرض مثل النبات، فالإنسان زرع الأرض، والنبات زرع الإنسان «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا»، ولذلك صاغ إقبال فلسفة النماء والنشوء والارتقاء باعتبارها روح الإسلام.

وهذا الرزق للإنفاق، وليس للاحتكار أو الاستغلال «أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ»، ولا يُمنع من رزقها إنسان ولا حيوان «هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّه»ِ، وقد عذبت امرأة في هرة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ففي الأرض رزق للجميع، لكل ذي كبد رطب إنساناً كان أو حيوانا «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا»، فلا تتراكم الثروات عند قوم ولا تموت الملايين جوعا وقحطا، مسلمين أو غير مسلمين.

وعلى الأرض تقوم المدنية ويتأسس العمران، فإن تأسست على القوة والثروة وحدهما يكون عمرها قصيرا: «كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا»، وإن تأسست المدنية والعمران على التقوى والطاعة يطول عمرها «وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا»، فالفضيلة قانون التاريخ وليس القوة أو الثروة.

لا تقوم الحضارة على التخريب والتدمير وتجريف الأراضي واقتلاع أشجار الزيتون وهدم المباني وشفط المياه من الآبار أو تسميمها وطرد أهلها، ومن يفعل ذلك يكون مصيره كعاد وثمود، فالحياة على الأرض اختبار للإنسان، خلقها الله له ليستقر فيها ويعيد خلقها وتشكيلها بعقله وإرادته، فالإنسان يشارك في صنع الحياة فيها ويحولها من حياة عضوية إلى حياة عمرانية، والله خالق الأرض والحياة، والإنسان صانع الحضارة والتاريخ.

back to top