30 عاماً على زيارة القدس 1-4 بين العبقرية المزعومة والنهاية الملغومة
في التاسع من ذي الحجة 1397هـ الموافق السبت 19-11-1977، وبينما جموع المسلمين وأفئدتهم وعقولهم معلقة بجبل عرفات والمشعر الحرام في مشهد يباهي به الله سبحانه وتعالى ملائكته... كانت أنظار العالم وآذانه مشدودة إلى حدث فريد وعجيب احتبست معه الأنفاس وساد الصمت المطبق والسكون الرهيب إلا من صوت باب طائرة يُفتح، والرئيس المصري أنور السادات يهبط سلم الطائرة ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين واقف فاتحاً ذراعيه مرحباً بضيفه الكبير، مانحاً نفسه وبلده وزمرته شعوراً بالزهوّ والانتصار افتقدوه منذ 6 أكتوبر 1973... وبجوار بيغين يقف موشي ديان وزير الخارجية وأرييل شارون وزير الزراعة وإسحق شامير رئيس الكنيست، وعلى يساره تقف غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة التي عبّرت عن دهشتها الشديدة حين رأت السادات قائلة «هذا شيء لا يصدق»... ويهبط مع السادات سلم الطائرة صديقه ونسيبه عثمان أحمد عثمان، ومصطفى خليل الذي طلب بنفسه من السادات أن يرافقه في رحلته، وبطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية الذي صدر قرار تعيينه في اليوم السابق (الجمعة 18-11) بعد تقديم إسماعيل فهمي وزير الخارجية في ذلك الوقت ورئيس وفد مصر في مؤتمر جنيف استقالته احتجاجاً على زيارة السادات للقدس، وكذلك محمد رياض الذي يقال إنه رفض الوزارة بعد إسماعيل فهمي، ويقول آخرون إن السادات فهم موقفه خطأً حين أخبره بعدم وجود أوراق جاهزة ومعدة لرحلة القدس فاعتبرها السادات اعتذاراً عن عدم السفر معه فأصدر قراره بتعيين بطرس غالي قبل سفره بيوم واحد، وكان الدكتور بطرس غالي قد انضم إلى الوزارة لأول مرة في 26-10-1977 كوزير دولة بلا اختصاصات محددة.
ومنذ ذلك التاريخ 19-11-1977 والمناقشات السياسية والدراسات الأكاديمية، لا، بل التحليلات النفسية لأشخاص هذا الحدث لا تنتهي، والسؤال المفترض هو: هل كانت هذه الزيارة رؤيةً مستقبليةً سابقةً لأوانها من الرئيس السابق إلى الدرجة التي شبهه البعض بساحر يقرأ في بلورته السحرية ما سوف يحدث للعالم بعد ذلك (انهيار الاتحاد السوفييتي... زعامة أميركا المنفردة للعالم... تشرذم الوطن العربي)؟! أم كانت- كما يراها آخرون- قمة الانهيار والاستسلام؟ وبداية النهاية للعالم العربي والتضامن العربي؟! فالبعض مازال يعتقد أن بداية النهاية للتضامن العربي المستمرة إلى الآن، كانت زيارة القدس؛ ولم تكن حرب الخليج الأولى ولا الثانية ولا الحرب الأهلية اللبنانية ولا احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني في كل ذلك ولكن البداية كانت من هنا... زيارة القدس فهل كانت فعلاً استشرافاً لأحداث مستقبلية أم سبباً فيها؟! بالتأكيد كان ما حدث مفاجأة أقرب إلى الصدمة وواقعاً أبعد من الخيال، فمنذ أقل من 4 سنوات على ذلك الحدث كانت الحرب مشتعلة يغلي أوارها بين البلدين، وصوت الثأر والكرامة لا يعلوه صوت ونار الانتقام تتأجج في الصدور، فماذا حدث في 4 سنوات لتتبدل الحال 180 درجة، لاسيما أن الصراع العربي الإسرائيلي قد مر عليه أكثر من 25 عاما (48-77)؟! ولذلك لم يكن أكثر الحالمين خيالاً يتنبأ بإمكان حدوث هذه الزيارة إلى درجة أن مناحيم بيغين، كما تقول بعض الروايات، أمَرَ بعض القناصة بالاستعداد في شرفات المطار خوفاً من أن يكون كل ذلك مؤامرة من السادات!! ومن الغريب أن ما كان يخشاه بيغين (المؤامرة) اعتبره بعض الحكام العرب على الجانب الآخر كذلك، فلقد أحدثت زيارة السادات انفعالاً غير مسبوق بين الحكام والجماهير العربية، وذهب الكثيرون إلى وصف السادات بالخائن والعميل وقد كان منذ 4 سنوات بطلاً مغواراً، فأين الحقيقة في كل هذا؟ يعتقد البعض أن بداية الرحلة (زيارة القدس) بدأت من خطاب السادات أمام مجلس الشعب المصري في افتتاح دورته يوم 9-11-77 الذي قال فيه «إنني على استعداد للذهاب إلى آخر نقطة في العالم سعياً إلى السلام العادل... بل إنني على استعداد للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلي». ذلك الخطاب الذي حضره ياسر عرفات وقام مصفقاً بكلتا يديه عند سماعه عبارة السادات ورصدته كاميرات التلفزيون مبتسماً وفرحاً، وفي اليوم التالي أرسل الكنيست دعوة إلى السادات للحضور، عن طريق السفير الأميركي، وأرسل ياسر عرفات لعناته إلى مصر والسادات! فهل كانت البداية فعلاً من هنا؟! أم من متى؟! الروايات كثيرة والتحليلات لا تنتهي ما بين رحلة رومانيا واتخاذ السادات قراره وهو في الطائرة، إلى لقاء المغرب بين التهامي وديان وغير ذلك، ولكن ربما كانت البداية قبل ذلك بكثير، ربما كانت يوم 16-10-73 وأيضا من منصة مجلس الشعب المصري حين وقف السادات وكان في قمة زهوه وفخره بانتصاره العسكري غير المسبوق على إسرائيل، وأعلن السادات يومها دعوته إلى السلام، وكما لم يصدق أحد ذهابه إلى القدس في خطابه يوم 9-11-77 لم يفهم أحد دعوته إلى السلام يوم 16-10-73 كما كان يضمرها هو في داخله. وللحديث بقية