تعدّديّتان وعروبة واحدة
الباب الأول للخداع المباشر هو الخلط ما بين تعددية وتعددية، فالأولى تتصل بالتوافقية وأرضها الخصبة لبنان، «فكّ الله أسره»، والثانية تتّصل بالديموقراطية. وكما التسامح أرض ملائمة عمودية على الديموقراطية لا تقع في مستواها، فإن التوافقية من «أخلاق» الديموقراطية لا من أسسها المكتوبة ولا المفروضة ولا الحاسمة.من الصعوبة بمكان أن يكتب كاتب سوري عن شيء في هذا الأسبوع، ولا يكون في زاوية عقله طائر يدوّم بأجنحته في مكان اسمه لبنان، ومن الصعوبة بمكان أيضاً أن يعترف السوريّ بأن ما يشغله دائماً في الفترة الأخيرة هو لبنان، لكن الأمر حقيقة واقعة. في ما يلي محاولة للخروج من الضجيج، قد لا تنجح تماماً:أحمل للكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان احتراماً شديداً، «من دون محبة»، ولم أحلّل دوافعي ومبرّراتي حتى الآن، أو لم أتفرّغ للأمر بما يكفيه، وقد كتب في الأسبوع الماضي مقالةً في صحيفة نيويورك تايمز، عدت إليها حين قرأت ترجمتها «المعتمدة» في إحدى صحفنا الكبرى، وكان عنوانها العربي «الترويج للتعدّدية بدلا من الديموقراطية»، في حين كان عنوانها الأصلي أقرب إلى أن يكون «جذر الديموقراطية: التعددية»، واختلاف العنوان ليس مشكلة بذاته، إلا إذا كان استفزازاً إضافياً للقارئ المهتم أو الملسوع.يقول فريدمان: «لم يكن أكبر (الإمبراطور المسلم الذي حكم الهند في القرن السادس عشر) متسامحاً فحسب بل كان يحترم الديانات والأفكار الأخرى، ولعلّ لهذا السبب شكلت دولته أقوى إمبراطورية في تاريخ الهند قاطبة، وبإمكان باكستان بنفس المواهب والقدرات التي تمتلكها أن تستخدم نموذج الإمبراطور المسلم أكبر لبناء دولة متعددة مثل الهند»، ويزيد فريدمان باختصار «مكرر: العالم العربي».يقترح الكاتب علينا بذلك أن نشتغل على «التعددية» وبها، أو بموضوع التسامح، حتى يمكن الدخول في حديث حول الديموقراطية. حكامنا يقولون شيئاً قريباً من ذلك، يرى فينا عوائق في العقل والثقافة والتربية لابدّ من تجاوزها قبل طرح الديموقراطية على الطاولة.وعلى الرغم من أن لدينا أشياء حقيقية كثيرة تدعم ذلك الحكم، وللأسف، فإنه خاطئ وخريطة طريق مخادعة وموهمة، تستغلّ فقرنا وإحباطنا المتكرّر المستدام، وتجرّنا إلى الاستسلام في حقنا بالحرية والتقدم.الباب الأول للخداع المباشر هنا هو الخلط ما بين تعددية وتعددية. فأولاهما تُعنى بالتنوع الثقافي أو هي «التعددية الحضارية» كما كان يسميها اللبنانيون «هم مرةً أخرى!»، وثانيتهما تتعلّق بالديموقراطية من جانب حرية الرأي والتعبير والتنظيم، وتنتهي إلى مسألة الحق في تداول السلطة «والعياذ بالله»، وعند العرب «كلّه صابون». للتعددية الثانية أهمية استثنائية وابتدائية، فهي من مطالب الحرية، والقيمة الأسمى والأكثر إسهاماً في نقل الإنسان نحو مواطنيته حسب المعايير المعاصرة التي أنجزتها البشرية التي لابدّ أن نقرّ أولاً بانتمائنا إليها، كما يبدو، لكنّها ليست غاية المطاف بالتأكيد، بل هي محطة أولى أو دائمة. ورحم الله أنطون المقدسي الذي كان يهمس في أيام ربيع دمشق كمن يكلّم نفسه «يا ويلنا لو انتهى الأمر على حرية الرأي».حقل هذه التعددية في السياسة، وفيه تنشأ الأحزاب وتجد الاتجاهات المختلفة طريقها إلى تحقيق برامجها أو الضغط من أجلها، ومن خلالها يستطيع المواطن أن يتنفس حريته في الاختيار أو الالتزام والانتخاب والاتحاد أو الائتلاف مع أمثاله ويتنافس مع المختلفين عنه، وطريق التعدد هو حرية التنظيم في أحزاب تحت سقف القانون وحكمه، وليس أيّ قانون شفوي أو مفروض بالقوة أو بالاستثناء، بل القانون المنطلق من حقوق الإنسان وواجباته، ومن العقد الاجتماعي المعاصر.وللتسامح أهمية كبيرة لا تُنكر بالطبع، لكنه لا يكفي لتسطير هذا العقد الذي قد ينطلق أحياناً من الخوف نفسه، ومن الحاجة إلى ضمانات متبادلة، ومن أهمية أن «يكتب بيننا كاتب بالعدل»، مهما كانت الثقة عميقة والحب موجوداً والناس نبلاء.فلم يكن ينقصنا من يكرّس «خصوصيّتنا» التي يتذرّع بها حكامُنا من أجل تبرير حبسهم حريّتنا عنّا، ويحتمي العنصريون من المعادين لنا في بلادنا وللمهاجرين من العالم الثالث إلى العالم الأول تحت عنوان العنصرية الحضارية أو الثقافية، بالقربى من تلك التعددية الأولى المذكورة أعلاه.التعدّدية الأولى تتصل بالتوافقية «أرضها الخصبة لبنان مرة ثالثة، فكّ الله أسره»، والتعددية الثانية تتّصل بالديموقراطية. وكما التسامح أرض ملائمة عمودية على الديموقراطية لا تقع في مستواها، فإن التوافقية من «أخلاق» الديموقراطية لا من أسسها المكتوبة ولا المفروضة ولا الحاسمة، هذه التوافقية لا تمتّ بقرابة مُحكمة إلى ما يُسمّى بالديموقراطية التوافقية في بعض بلدان العالم الأخرى مثل سويسرا وهولندا وبلجيكا، وربما كانت كذلك مع ما يُسمّى بالاسم نفسه في رواندا، بعد المذابح الكبرى المعروفة، أو لعلّها من قبلها أيضاً. ذلك كلّه من أبواب تشويه المقولة والمفهوم والمصطلح، أو الفشل في ترجمته وتأريضه في أرض العروبة التي لم تجد طريقها إلى العالم الجديد الواحد بعد.* كاتب سوري