زيارة جديدة إلى اسطنبول 2 من 2: تركيا جسر بين حضارتين
غابت الحوارات بين دول المنطقة عن أجنداتها السياسية منذ زمن، وهي وبديهة لها أهميتها الفائقة في ضوء التغير في الموازين الدولية والإقليمية، وضرورة يصعب الاستغناء عنها للتواصل بين المفكرين والمثقفين وتبادل الخبرات والرؤى. في هذا الإطار حضرت في اسطنبول مؤتمراً هاماً بعنوان: «تركيا جسر بين حضارتين» وذلك في إطار الحوار التركي-المصري، وكان المؤتمر غنياً بالأفكار كما بالمشاركين من سياسيين ومفكرين وأساتذة العلوم السياسية. نظم المؤتمر «مركز حوار الحضارات» التابع لجامعة القاهرة و«منبر أبانت للتبادل الثقافي» في تركيا، وحضر عن الجانب المصري نخبة من علماء العلوم السياسية والمفكرين، وهم: الأستاذ الكبير فهمي هويدي، والدكاترة: نادية مصطفى، مصطفى علوي، مصطفى كامل السيد، علي ليلة، سيف الدين عبدالفتاح، إبراهيم البيومي غانم، باكينام الشرقاوي، ومنار الشوربجي، وكمال حبيب، وهبة رؤوف، وكاتب السطور. وحضر عن الجانب التركي: وزير الخارجية الأسبق ياشار ياقيش، والدكاترة شاهين ألباي، ليفينت كوكر، ياسين أقطاي، مصطفى شينتوب، نهاد ألاي أوغلو، نظيف أوزتورك، إيسر كاراكاش، نيازي أوكتيم وكمال أوشاك وصالح يايلاسي. تناول المؤتمر –في ما تناول- قضية الساعة في تركيا وهي صعود حزب العدالة والتنمية في مقابل العلمانية، واستمرت الأفكار والمساجلات بين المشاركين وإن هيمن عليها موضوع «الحجاب» في مقابل «العلمانية». كان طبيعياً أيضاً أن يدافع الجانب التركي عن تجربة حزب العدالة والتنمية وما اعتبره البعض «تحولاً تاريخياً» في تركيا، ولكن كاتب السطور كان له رأي آخر وجدت من المفيد إطلاعكم عليه. مسألة الحجاب هي مسألة رمزية هامة في تركيا العلمانية، ومن الطبيعي التأكيد على جانب الحريات الشخصية فللمرأة حق ارتداء الحجاب من دون إكراه، ولها أيضاً حق عدم ارتداء الحجاب ومن دون إكراه أيضاً. ولذلك فالعلمانية في تركيا أبعد ما تكون عن العلمانية بمعناها المستقر في العلوم السياسية والاجتماعية، لأن العلمانية في تركيا تبدو وكأنها أصبحت ديناً يناهض الإسلام، في مقابل المعنى الثابت والراسخ والمستقر أي كونها الفصل بين الدين والدولة وكفالة الحقوق الدينية والمدنية، وهذا أمر يقتضي التنويه. ولكن على الجانب المقابل لا يجوز الانحدار بمستويات الحراك السياسي في المجتمعات إلى مستوى مع الحجاب أو ضده، فالحراك السياسي الطبيعي يقوم بين أحزاب وتيارات سياسية ذات أيديولوجية وبرامج مختلفة تسعى جميعها للوصول إلى السلطة ببرنامج سياسي واقتصادي يستند إلى مصالح قطاعات وشرائح مجتمعية بعينها. كما جرى العرف على تحديد القوى الاجتماعية المؤيدة لهذا الحزب أو التيار وقياس خدماته لها، وبالتالي تصنيف الحزب إلى يمين أو وسط أو يسار. وبتطبيق ذلك على حزب العدالة والتنمية يتضح –وبغض النظر عن موضوع الحجاب- أنه حزب يميني محافظ يتحالف داخلياً مع رجال الأعمال والشرائح العليا في المجتمع التركي، مع احتفاظه بنفس التحالفات الخارجية والإقليمية لتركيا مثله مثل أحزاب اليمين التقليدي. وتأسيساً على هذا التحليل فالخاسر من صعود حزب العدالة والتنمية هم أحزاب اليمين التقليدية في تركيا مثل حزب الوطن الأم أو حزب الطريق القويم وليس العلمانية كمبدأ سياسي، وهو ما فات المشاركين التأكيد عليه. والحقيقة أنها ليست من قبيل المعايرة أن يقال إن هذا الحزب يميني أو يساري ولكن التوجه الفكري للحزب السياسي هو المعلم الأول لتوصيفه سياسياً وليس تأييده أو معارضته لموضوع الحجاب.طغى موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي على جلسات المؤتمر، وفي هذا السياق قدم الدكتور مصطفى علوي ورقة متميزة عالية المستوى عن سيناريوهات القبول والرفض لطلب تركيا من قبل الاتحاد الأوروبي، وتناولت أعمال المؤتمر أيضاً مشاكل الأقليات في تركيا، حيث تناول الزميل التركي الدكتور نيازي أوكتيم مسألة الأقليات فقدم رؤية سياسية تاريخية للأرمن والمسيحيين الأرثوذكس في تركيا، على خلفية تتناول الأقليات باعتبار تميزهم الديني، ولفت السيد أوكتيم إلى موضوع الأرمن والمجازر التي لحقت بهم، على قاعدة أن ذلك موضوع بيد المؤرخين وليس السياسيين. ورغم ثراء الطرح والبحث، فقد فات نجم العلوم السياسية التركية ذكر الأكراد في مداخلته وهو ما حاولت توضيحه، فكان بمقابلي إجماع تركي بأن الدستور التركي ينظر إلى الأقليات باعتبارها أقليات دينية فقط. والشاهد أن الأحداث التاريخية مثل قضية الأرمن يتم تسييسها لتحقيق أهداف خارجية، واستدعيت إلى أذهان الحاضرين أننا -نحن العرب- نعاني من حادثة تاريخية أخرى وقعت في غير منطقة من العالم، ومازلنا نحن ندفع ثمناً سياسياً كبيراً حتى الآن، ولذلك اتفقت معه على هذا الطرح. ولكن موضوع «الأقليات» من حيث الأساس في تناولها فيجب أن ينطلق من حيث التعريف أولاً، وتعرف العلوم السياسية الأقلية باعتبارها «مجموعة سكانية ديموغرافية تعيش على أراضي دولة ما، وتميز نفسها بخصائص مميزة مثل العرق أو اللغة أو الدين، في مقابل مجموعات سكانية ديموغرافية تسيطر على مقاليد السلطة». وبالتالي فالأكراد هنا «أقلية» وهو وصف صائب تماماً من منظور العلوم السياسية، حتى أن الولايات المتحدة الأميركية مثلاً وسعت مفهوم الأقلية في السنوات الخمسين الأخيرة ليضم أيضاً مجموعات السكان التي لا تميز نفسها لا من حيث الدين ولا اللغة ولا العرق عن الأغلبية، بل إنها لا تتقيد بأنماط السلوك السائدة في المجتمع، واعتبرتها «أقلية» أيضاً. والموضوع هنا لا يعني انحيازاً أيديولوجياً بقدر ما هو توصيف سياسي للمشكلة، ولذلك حلّ موضوع الأقليات لا يمكن أن يكون حلاً سياسياً بقدر ما هو حل ديموقراطي. ومع ذلك تبدو المسألة محاطة بقدر كبير من الحساسية في تركيا كان مفيداً الإطلالة عليها من قرب، وغني عن القول إن جلّ المجتمعات لها حساسيات مشابهة. طبعاً لم يحدث اتفاق في هذه النقطة أيضاً ولكن الحوارات لا تعني التطابق في الرؤى لكل القضايا بين جانبين، بل تقريباً لوجهات نظر كل طرف لدى الآخر، ولم ينته المؤتمر إلا وشدد كاتب السطور –مؤيداً من الأستاذ الكبير فهمي هويدي- على ضرورة الانفتاح على إيران، باعتبار أن العرب وتركيا وإيران هم أركان المنطقة، وأن أي انفتاح ثنائي بين هذه المنظومة الثلاثية يجب ألا تكون ضد الطرف الثالث. وخيّم جو من الإجماع بين الجانبين على ما طرحه كاتب السطور بشأن الملف النووي الإيراني، وضرورة التنديد بحيازة «إسرائيل» المؤكدة للأسلحة النووية وليس توجيه سهام الاتهام إلى إيران بسبب ملفها النووي واعتباره مهدداً للاستقرار في المنطقة، ولذلك فالدعوة المصرية إلى إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل يجب التشديد والتركيز عليها وهو ما لاقى قبولاً تركياً.تملك تركيا المؤهلات التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية اللازمة كي تنجح في دور «الجسر الحضاري» بين الشرق الإسلامي والغرب، فهي تقدم أفضل نموذج سياسي للتناوب على السلطة في المنطقة، وهي أكبر اقتصاد بين دول الشرق الأوسط، إذ تحتل المركز 17 بين أكبر اقتصادات العالم، وعلاوة على كل ذلك حباها الله بإطلالة جغرافية عبقرية، بحيث تبدو تركيا مثل شريحة أفقية هابطة من السماء بين البحر واليابسة، مما يجعلها تتحكم في الممرات البحرية الموصلة بين البحرين الأبيض والأسود، وتطل على أقاليم جغرافية متنوعة تبدأ بالقوقاز وآسيا الوسطى شرقاً والقارة الروسية شمالاً، والبلقان وأوروبا غرباً وإيران والعراق وسورية جنوباً، وفي هذه اللحظة من تاريخ منطقتنا تبدو تركيا وكأنها استوعبت دروس التاريخ واكتشفت شرق أوسطيتها من جديد، لتعود في محاولة للانفتاح على جوارها التاريخي والجغرافي والحضاري. نأمل أن يتواصل الدور التركي ويزداد ليتجاوز حتى أن يكون مجرد جسر بين الشرق والغرب، وصولاً إلى عودة تركيا إلى موقعها الطبيعي في المنطقة والعالم.* باحث وكاتب مصري